من أين تأتي أزمة الثقة في اقتصاد تونس المرهق
من يطالع آخر تقارير ديلوت، إحدى أكبر شركات الخدمات المهنية في العالم، عن الاقتصاد التونسي يدرك سريعا أننا أمام أزمة لا يمكن توصيفها فقط بكونها عابرة أو مرتبطة بظرف استثنائي عالمي، بل هي أزمة بنيوية عميقة.
الأرقام التي خرج بها التقرير ليست مجرد مؤشرات جامدة، بل هي مرآة لواقع اقتصادي مرهق، تكاد فيه الثقة أن تتلاشى بين المواطن والدولة، وبين المستثمر والسوق، وحتى بين تونس ومؤسسات التمويل الدولية.
أول ما يلفت النظر هو تضخم حجم الدين العام الذي تجاوز 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى خطير يجعل من أي هامش مناورة مالية مجرد وهم. حين تُوجَّه الموارد أكثر نحو خدمة الدين بدل الاستثمار في التنمية والبنية التحتية، فإن الدولة تضع مستقبلها رهينة للديون الخارجية والداخلية.
لا يقف الأمر هنا، فمعدل البطالة عند 15.3 في المئة بالربع الثاني من 2025، مع بطالة بين الشباب تتجاوز 40 في المئة، ما يعني أن نصف الجيل الصاعد تقريبًا خارج الدورة الاقتصادية، وهو مؤشر لا يقوض التنمية فقط، بل يهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
الاقتصاد ليس مجرد جداول ومعادلات، وغياب الثقة يعني غياب الأفق، ومهما وضعت من خطط اقتصادية، فإنها تبقى مجرد وثائق بلا روح إذا لم تدعم بتوافق سياسي واجتماعي
صحيح أن معدل التضخم شهد بعض الانفراج بانخفاضه إلى 5.2 في المئة في أغسطس الماضي، وهو أدنى مستوى منذ سنوات، لكنه لا يُترجم بالضرورة إلى تحسن القدرة الشرائية. فالذي يواجه أسعارا مرتفعة في المواد الغذائية والطاقة والدواء لا يشعر بثمار أي تراجع فيه. بل على العكس، تظل الأسعار اليومية عائقا أمام حياة كريمة لشرائح واسعة من التونسيين.
العجز التجاري المترسخ يكشف أيضا عن عطب هيكلي في النموذج الاقتصادي. ففي أول ثمانية أشهر من 2025 بلغ 4.85 مليار دولار مقابل 3.95 مليار قبل عام. كما أن تغطية الصادرات للواردات تراجعت إلى 76.2 في المئة بالأشهر الخمسة الأولى من العام.
هذا يعني أن تونس لا تزال تعتمد على الاستيراد بشكل مفرط، بينما صادراتها لا تكفي لسد الفجوة، ما يثقل كاهل ميزان المدفوعات ويضغط على قيمة الدينار.
رغم هذه الصورة القاتمة، تظهر بعض المؤشرات الإيجابية المحدودة. فقد سجل الاستثمار الأجنبي المباشر نموا بنسبة 20.8 في المئة بالنصف الأول من 2025 ليصل إلى 550 مليون دولار، مع مساهمة قوية من قطاع الصناعة الذي جذب أكثر من مليار دينار.
غير أن السؤال يبقى: هل تكفي هذه الأرقام لتعويض تدهور بقية المؤشرات؟ الإجابة الواقعية أن هذه الاستثمارات، رغم أهميتها، لا تزال غير قادرة على تغيير مسار اقتصاد مثقل بالعجز والمديونية.
أما على مستوى النمو، فالتوقعات الدولية لا تمنح تونس سوى هامش ضيق للتفاؤل. صندوق النقد الدولي توقع نموًا عند 1.4 في المئة لسنة 2025، وهو معدل لا يرقى إلى طموحات شعب يطالب بفرص عمل وحياة كريمة، ولا يكفي لسد الفجوات التنموية بين الجهات.
الأسوأ أن هذا النمو المحدود يأتي في وقت تحتاج فيه تونس إلى معدلات لا تقل عن 5 في المئة لسنوات متواصلة كي تبدأ بالخروج من مأزق البطالة والعجز.
تونس لا تزال تعتمد على الاستيراد بشكل مفرط، بينما صادراتها لا تكفي لسد الفجوة، ما يثقل كاهل ميزان المدفوعات ويضغط على قيمة الدينار
الصورة ليست مغلقة تماما. تقرير للبنك الدولي أشار إلى أن تحسين الربط اللوجستي للموانئ وتقليص الإجراءات البيروقراطية يمكن أن يرفعا الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4 إلى 5 في المئة خلال ثلاث إلى أربع سنوات.
هذه الأرقام تكشف أن الحلول ممكنة إذا توفرت الإرادة السياسية والقدرة على التنفيذ، غير أن معضلة تونس ليست في غياب التشخيص بل في ضعف الإرادة الإصلاحية.
الأزمة إذن ليست أزمة أرقام فحسب، بل أزمة ثقة. المواطن لا يثق في أن الدولة قادرة على تحسين أوضاعه، والمستثمر لا يثق في استقرار القوانين، والشركاء الدوليون لا يثقون في جدية الإصلاحات. هذا ما يجعل الوضع أخطر: غياب الثقة يعني غياب الأفق، ومهما وُضعت من خطط اقتصادية، فإنها تبقى مجرد وثائق بلا روح إذا لم تُدعّم بتوافق سياسي واجتماعي.
إن الحديث عن المستقبل في ضوء هذه المؤشرات يقود إلى خلاصة واضحة: نحن أمام معركة لاستعادة الثقة قبل أن تكون معركة أرقام. بدون بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها، وبين تونس ومحيطها الدولي، ستظل الأرقام تتدهور مهما أُعلن من خطط وإصلاحات.
الاقتصاد ليس مجرد جداول ومعادلات، بل هو علاقة مباشرة بين مجتمع ودولة. وما لم تُستعد هذه العلاقة على أساس شفاف وعادل، ستبقى تونس عالقة في دائرة الاقتصاد المرهق، تستهلك أجيالها في الانتظار.