الأردن.. حين يصنع الغياب حضور الدولة
قرار الأردن عدم إرسال قوات إلى غزة أو الضفة ليس تراجعًا عن الموقف، بل تجسيدٌ للعقل؛ وليس امتناعاً عن المشاركة، بل تأكيدٌ على أن الدولة القادرة على قول “لا” في زمن الاصطفاف، هي الدولة التي تعرف متى تفعل، ومتى تختار ألّا تفعل. وذلك هو الفرق بين من تحرّكه البنادق، ومن تحرّكه الفكرة.
ومن هنا، يبدأ التحليل لا من الحدث، بل من الغياب.. لأن غياب عمّان عن الميدان هو الذي يمنحها مكانها في الخريطة.
الذين يقرؤون المشهد بعين السياسة اليومية يرون في الموقف الأردني سياسة “نأي بالنفس”. أما الذين ينظرون بعين النظام الدولي فيدركون أن عمّان تمارس أرقى درجات “الاشتباك الهادئ”، حيث لا تتنازل عن مبدئها الإنساني، ولا تنجرّ إلى معارك لا تشبه عقلها ولا أمنها القومي. إنها لا تنسحب من الصراع، بل تعيد تعريفه على طريقتها: دولة حدودها محفوفة بالنار، لكنها تعرف أن الحياد ليس استسلامًا، بل هندسة موقع.
يُقرأ القرار الأردني كاستجابة دقيقة لمعادلة القوة الإقليمية. فكل تحرك عسكري خارجي — في ظل فراغ عربي وتعدد وكلاء — قد يجرّ الأردن إلى مصيدة الفوضى. النظام الإقليمي مغلق، والقوى الكبرى لا تبحث عن حلول بل عن موطئ قدم جديد. من هنا يصبح الامتناع عن المشاركة فعل سيادة، لا انسحاباً من المسؤولية. فالدولة التي تحمي استقرارها في زمن الانفجار، إنما تحمي بذلك معنى الدولة نفسها.
الأردن صاغ لنفسه هوية تقوم على الدور لا على المساحة ومن هنا فإن "اللا-مشاركة" في الحرب ليست حياداً بل تمسكاً بصورة الدولة التي تحرس التوازن الأخلاقي حين ينهار كل توازن آخر
لا يمكن اختزال القرار في الحسابات الأمنية فقط؛ بل هو انعكاس لهوية أردنية تراكمت عبر قرن من الهندسة الدقيقة للموقع والرمز. فالأردن، الذي لا يملك رفاهية الجغرافيا، صاغ لنفسه هوية تقوم على الدور لا على المساحة، وعلى الوساطة لا على المزايدة. ومن هنا فإن “اللا-مشاركة” في الحرب ليست حياداً، بل تمسكاً بصورة الدولة التي تحرس التوازن الأخلاقي في الإقليم حين ينهار كل توازن آخر.
الأردن يدرك أنه يعيش في نظام إقليمي مشبع باللايقين: فاعلون جدد، حدود مرنة، وانفلات للقرار من المركز إلى الأطراف. في مثل هذا النظام، لا تكون المشاركة العسكرية مجرّد فعل، بل مغامرة تهدد البنية. لذلك، يتصرّف الأردن كـ”نظام فرعي مستقر”، يرفض أن يُستَدرج إلى حرب الآخرين على أرضه أو في جواره، لأن وظيفته الكبرى هي أن يبقى واقفًا حين يسقط غيره.
إن هذا القرار ليس طارئاً، بل امتداد لعقلٍ سياسي تشكّل منذ أيلول/سبتمبر ومروراً باتفاقية السلام وحتى اليوم: عقل يدرك أن الأردن لا يصنع أدواره بالصوت العالي، بل بالثبات في لحظات الارتجاج. ففي كل مرة يغرق الإقليم في وهم البطولة، يختار الأردن واقعيته الصلبة. لا يغامر في الجغرافيا لأنه يعرف قيمتها، ولا يدخل معركة إلا ليمنع اندلاع عشر سواها.
إنّ العالم، حين ينظر إلى هذا القرار، لا يراه موقفاً عابراً، بل دليلاً على توازن نادر بين الأخلاق والمصلحة في الشرق الأوسط. فبينما تحوّلت بعض الدول إلى وكلاء نار، تمسّك الأردن بدوره كوسيط عقلاني في زمن الجنون. لقد أدرك أن منطق “التموضع” أخطر من منطق “المشاركة”، وأن من يختار مكانه في المعادلة، يختار مصيره في التاريخ.
ربما يبدو القرار الأردني صامتاً، لكنه في جوهره أبلغ من بيانات العواصم. إنه إعلان سيادي بلغة الهدوء. فحين تتكلم البنادق، لا يَسمع إلا من يعرف أن الصمت نفسه قد يكون شكلًا من أشكال الردع.
فهل يدرك الإقليم أن امتناع عمّان عن الحرب ليس حياداً، بل تمرّدًا على منطق الفوضى؟
أم أننا ما زلنا أسرى الوهم القديم الذي يقيس قوة الدول بعدد جنودها، لا بعدد العقول التي تمسك الزناد… وتختار ألّا تطلقه؟