توقف احتجاجات قابس فرصة لبناء الثقة

الخطط الواضحة تزرع الثقة وتقنع العقول حتى لو كانت أقل مما ينتظره الناس لكن تجنب المصارحة يمكن أن يولد نتائج عكسية ويعطي مشروعية للاستثمار السياسي الذي تتخوف منه الحكومة.
الاثنين 2025/10/27
المشكلة حقيقية وتهمة الاستثمار السياسي لا تلغيها

توقف الاحتجاجات المطالبة بتفكيك المصنع الكيميائي بمدينة قابس الموجودة في جنوب شرق تونس. ليس مهما إن كان توقفا مؤقتا أم دائما، المهم هو أنه سيعطي الحكومة فرصة لبناء الثقة مع سكان المدينة الذين تظاهروا بالآلاف في الأسبوع المنقضي، وظهر الرئيس قيس سعيد ليعلن دعمه لمطالبهم المشروعة.

تحتاج الحكومة إلى فصل قضية التلوث الذي ينبعث من المصنع ليهدد حياة الناس، عن الاستثمار السياسي لهذه القضية، ما جهل الموقف الرسمي في البداية متحفظا وتم تأويله على أساس أن ما يجري في قابس تحرك سياسي بلبوس احتجاج اجتماعين وأن الهدف إحراج السلطة واستعادة بعض الأحزاب لحضورها، ما يفسر الحملة الإعلامية القوية لمقربين من مؤسسات الدولة ضد التحرك، قبل أن يتم تصويب الأمر، بالاعتراف بشرعية التحرك، مع التحذير من التوظيف السياسي. وهذا مفهوم ليكون متماشيا مع ما قاله الرئيس سعيد.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الاستثمار السياسي جزء من الحياة السياسية. في العالم كله تركز المعارضة على انتقاد الحزب الذي يحكم، وانتقاد خيارات الرئيس. وهو أمر حصل لدى صعود قيس سعيد نفسه في ولايته الأولى، حيث استثمر أنصاره أخطاء الأحزاب التي حكمت بعد الثورة أو تلك التي اشتركت في السلطة.

الحضور الحكومي الأخير في البرلمان كان مرتبكا وغير متماسك مع أن مقاربة الحكومة واقعية وضرورية لكونها تحافظ على المصلحة العامة فضلا عن استحالة تفكيك المصنع الكيمياوي لاعتبارات كثيرة

وبالنتيجة، فإن ربط التحرك المطلبي لمدينة قابس بوجود أحزاب، لن يجعله مثار تهمة. وعلى العكس، فإن المبالغة في التضخيم والاستمرار في ربط كل شيء بالمؤامرة والغرف المغلقة قد يوفر نافذة لبعض تلك الأحزاب لتطل على الناس من جديد. وحتى لو كانت هذه الغرف موجودة ومتآمرة وتحصل على تمويل خارجي، فهذا أمر يدركه السياسيون ويناقشونه، لكن أنظار سكان قابس تتجه إلى التحرك الحكومي للتفاعل مع مطالبهم.

كان هناك إجماع واسع على تحميل الأحزاب مسؤولية الأزمات التي تلت الثورة، وتفهم لإجراءات 25 يوليو 2021 ودعم شعبي كبير لها، وضوء أخضر للرئيس سعيد ليفعل ما يريد. والجمهور ينتظر النتائج والمشاريع، ولا تهمه  الحيثيات والتفاصيل. ومن المهم أن تكون الحكومة واعية بهذا وتكف عن تبرير تعثر التطوير والتحسين بالهجوم على الأحزاب والجمعيات.

حان الوقت لتتحدث الحكومة عن نفسها وخططها ولا تختبئ خلف شعبية الرئيس سعيد، والأهم أن تنجح في أن تقنع بها الناس. رأينا أن الحضور الحكومي الأخير في البرلمان كان مرتبكا وغير متماسك، مع أن مقاربة الحكومة واقعية وضرورية لكونها تحافظ على المصلحة العامة، فضلا عن استحالة تفكيك المصنع الكيمياوي لاعتبارات كثيرة منها أن معالجة الفوسفات أهم موارد البلاد وإغلاق المصنع يعيد تونس إلى مربع ما بعد الثورة بعد أن خسرت مكانتها في السوق، وهي الآن قد استعادت البعض من هذه المكانة بعد جهد كبير.

كما أنه من الصعوبة بمكان نقل المصنع لمكان آخر لأن هذه الخطوة ستثير مشاكل الحكومة في غنى عنها، ولا يمكن وجود سوى في مدينة ساحلية، ومقترح نقله لمنطقة صحراوية نائية يصعب تحقيقه واقعيا.

يفترض أن تصارح الحكومة مواطني قابس بهذا الموقف وتدافع عنه وتفسر مبرراته، لا أن تقف في منتصف الطريق، بالجمع بين موقفين متناقضين، بين معالجة أسباب التلوث وتنفيذ المشاريع المعطلة التي تزيد في الإنتاج، وبين الإيحاء بأن الدولة مع مطالب الشارع، وأن المشكلة في من يركبون على الحدث ويستثمرون لأجندات سياسية.

اضطراب الموقف يضعف الموقف الحكومي ولا يجلب التعاطف الشعبي. على العكس يقدم صورة سلبية تبدو فيها الحكومة كما لو أنها ضعيفة ولا تفهم أزمة قابس، ويمكن بالمزيد من الضغوط دفعها إلى التنازل، ويعطي مدخلا حقيقيا للاستثمار السياسي والنقابي.

يمكن الاستماع لممثلين عن المحتجين، ومناقشتهم في ما رفع من شعارات خلال المسيرات الأخيرة، ومدى واقعيتها، وتقديم تعهدات واضحة تراعي قدرات الدولة وإمكانياتها

أغلب وزراء الحكومة تكنوقراط، ويفترض أن يقدموا مقاربة علمية دقيقة تضبط موقف الدولة ومصالحها وتحدد مجال تدخلها. وليس مطلوبا من التكنوقراط أن يمارسوا السياسة أو أن يكسبوا تعاطف الشارع على حساب مصالح الدولة، حتى لا يكرروا أخطاء الحكومات السابقة في ملف قابس.

وكان على رئيسة الحكومة أن تحضر جلسة البرلمان وتجيب عن أسئلة النواب، أو على الأقل ترسل وزيرا متخصصا في الملف ليقدم مقاربة واضحة، لا أن ترسل وزيرين بعيدين عن الملف ليظهرا في صورة من يحاول التبرير والتفسير بلا حجج.

مرت الاحتجاجات بسلام، لكن لا شيء يمنع من تكرارها في وقت قريب أو بعيد. وهو وضع يمنح الحكومة فرصة للاتصال بممثلي الدولة في مختلف الهياكل الجهوية والمحلية، وفي البرلمان بغرفتيه، الذين وجدوا أنفسهم منحازين آليا لمصالح منطقتهم، وسمعنا تصريحات قوية في البرلمان لممثلي قابس.

من المهم محاورتهم حول أفكار الحكومة بشأن تجاوز الأزمة، ويمكن الاستماع لممثلين عن المحتجين، ومناقشتهم في ما رفع من شعارات خلال المسيرات الأخيرة، ومدى واقعيتها، وتقديم تعهدات واضحة تراعي قدرات الدولة وإمكانياتها. بمعنى تقديم وعود منطقية يمكن تنفيذها تدريجيا، وليس فقط إقناعهم بوقف الاحتجاج دون تفكير بشأن ما سيحصل لاحقا في ما لو عجزت الحكومة عن تنفيذ ما تعهدت به من مثل مستشفى متخصص في معالجة الأمراض السرطانية.

يمكن لرئيسة الحكومة أيضا، أو لجنة وزارية متخصصة في ملف قابس أن تعقد مؤتمرا صحفيا تستدعي فيه الإعلام المحلي والأجنبي، وتعرض تصورها لحل الأزمة ووفق جدولة زمنية واضحة، ثم تستمع إلى الأسئلة والاستفسارات، وتوصل من خلالها رسائل إيجابية لبناء الثقة مع مواطني قابس فيستمعون لها بعيدا عن صخب الشعارات والمزايدات.

الخطط الواضحة تزرع الثقة وتقنع العقول حتى لو كانت أقل مما ينتظره الناس. لكن تجنب المصارحة يمكن أن يولد نتائج عكسية ويعطي مشروعية للاستثمار السياسي الذي تتخوف منه الحكومة.

7