فيفا يحوّل كرة القدم إلى سياسة خارجية
كرة القدم شيء حماسي لا يُملّ منه. ملايين البشر على سطح كوكبنا يستمتعون بها. عشرات اللاعبين المميزين من حول العالم نتابعهم بشغف في الملاعب أو عبر شاشات التلفزيون، إما في فرقهم المحلية أو منتخباتهم الوطنية. إنه إدمان ليس له حدود، وليس له دواء.
هذا جميل. لكن لماذا لا يوجد شيء كامل ومثالي في هذه اللعبة التي تحيط بها ألغاز لا يستطيع الإجابة عنها بصراحة سوى رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) جاني إنفانتينو؟
الدافع لكتابة هذه الأسطر كان إنسانية المدرب جينارو غاتوزو ولاعبي منتخب إيطاليا وامتعاضهم مما يحصل في غزة، وليس بسبب فوزهم على المنتخب الإسرائيلي مساء الاثنين في الجولة الثانية لتصفيات كأس العالم 2026 عن قارة أوروبا.
ماذا تفعل إسرائيل في أوروبا وهي على أرض آسيوية؟ هذا سبب آخر لتعرف مدى الخبث الكروي – السياسي.
ازدواجية المعايير، أكثر حدّة من الحرب ذاتها. هي ما يقتل مصداقية المنظومة العالمية، رياضيًا وأخلاقيًا.. فقد ملّ العالم من تحكّم زمرة من النافذين في مصير ثمانية مليارات إنسان
في فبراير 2022، اتخذ فيفا قرارًا حاسمًا يتمثل في إقصاء المنتخب الروسي من كافة المسابقات الدولية، بما في ذلك تصفيات كأس العالم، كعقاب لموسكو على ما يراه الغرب غزوًا لحليفتهم “المسالمة” أوكرانيا. القرار جاء بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (يوفا)، واعتُبر حينها “موقفًا أخلاقيًا” يعكس رفض الأسرة الرياضية العالمية للعدوان العسكري، ودعمًا واضحًا لحقوق الإنسان والسيادة الوطنية. هذا الموقف الحازم سرعان ما فقد وجاهته الأخلاقية عندما نقارنه بصمت الفيفا المريب تجاه ما يحدث في غزة منذ أكتوبر 2023، حيث تخوض إسرائيل حربًا شرسة خلّفت آلاف القتلى والجرحى المدنيين، ودمرت مستشفيات ومدارس وملاعب، وحتى ملاجئ تديرها الأمم المتحدة، لنصل إلى ممارسة سياسة التجويع ضد أكثر من مليوني إنسان، دون أن يصدر أي رد فعل موازٍ من الهيئة الدولية التي تدّعي الحياد.
تطرح هذه المفارقة سؤالًا صريحًا: هل تُقاس المبادئ في الفيفا بجواز السفر السياسي؟ وهل أصبحت حقوق الإنسان مبدأ انتقائيًا يخضع لمزاج الجغرافيا والمصالح؟ إقصاء روسيا لم يكن مبنيًا على أدلة جنائية رياضية، بل على موقف سياسي مباشر من الحرب، وهو ما أكدت عليه الفيفا بقولها إن “الرياضة لا يمكن أن تبقى صامتة أمام العدوان.” فكيف تصمت اليوم أمام دمار أكبر، وأمام صور يومية لا يختلف اثنان في وحشيتها؟ بل كيف تسمح للمنتخب الإسرائيلي، الذي ليس له أي وزن في عالم كرة القدم قياسًا بروسيا، بمواصلة مشاركاته في المنافسات الأوروبية والناشئين والبطولات الأولمبية دون تعليق أو حتى تلميح للعقوبة؟
الازدواجية لا تقف عند حدود القرار، بل تتجلى في التبريرات. عندما تم إقصاء روسيا، قيل إن ذلك جاء حفاظًا على سلامة اللاعبين ورفضًا لاستخدام الرياضة كأداة ترويج للسياسة. نفس المبدأ لا يُطبّق على المنتخب الإسرائيلي، الذي يُستخدم حاليًا – في نظر كثيرين – كأداة دعائية تعزز سردية دولة تُتهم من منظمات كبرى مثل هيومن رايتس ووتش وأمنستي بممارسة نظام فصل عنصري بحق الفلسطينيين، وتخوض حربًا متواصلة تُوصف بأنها “أعمال إبادة” من قبل مسؤولين أمميين، دون أن يتحرك للاتحاد الدولي لكرة القدم ساكن.
هذه السياسة الانتقائية تُضعف من شرعية الفيفا كمؤسسة تدّعي الحياد وتستند إلى القيم الإنسانية، وتكشف أن الشعارات التي تتزين بها مثل “قل لا للعنصرية” أو “كرة القدم توحّد العالم” تبقى زينة لفظية تُستخدم عند الحاجة، بينما تختفي عند أول اختبار أخلاقي حقيقي. والأسوأ من ذلك، أن مؤسسات إعلامية كبرى ومعلنين وشركاء للفيفا يشاركون ضمنيًا في هذا الصمت، ويكرّسون فكرة أن المعايير الأخلاقية في الرياضة ليست سوى واجهة ناعمة تخفي وراءها شبكة من المصالح السياسية والاقتصادية.=
ماذا تفعل إسرائيل في أوروبا وهي على أرض آسيوية؟ هذا سبب آخر لتعرف مدى الخبث الكروي – السياسي
المنتخب الفلسطيني، في المقابل، محروم من أدنى مقومات الاستعداد الرياضي، ويعاني لاعبوه من فقدان منشآت كاملة بسبب الحرب، دون أن توفر له الفيفا الحد الأدنى من الحماية أو حتى الاعتراف بأن ما يتعرض له يتناقض مع “روح اللعبة”. بل وحتى المطالبات الرمزية من لاعبين دوليين بإيقاف المباريات تضامنًا مع غزة، كما حصل في بعض الدوريات، قوبلت بعقوبات أو تحذيرات.
الرسالة واضحة: الفيفا، عن وعي أو لا وعي، ترسل إشارة بأن العدالة في الرياضة تخضع لميزان القوى، وأن المذابح قد تُغتفر إن وقعت في الجنوب العالمي، أو إن كان مرتكبوها – ونقصد هنا القيادة في إسرائيل – يحظون بحماية الغرب، وأساسا من الولايات المتحدة، التي قال جو بايدن حينما كان سيناتورًا قبل أن يصبح رئيسًا، بأن الإسرائيليين “أفضل استثمار للولايات المتحدة على الإطلاق.”
هذا الانحياز اللامفهوم يقوّض من صورة كرة القدم كلغة سلام وشغف موحّد للبشر، ويحوّلها إلى مساحة أخرى من النفاق السياسي الدولي. وهو بالفعل كذلك.
من حق شعوب العالم، لاسيما في الجنوب، أن تطالب الفيفا بمواقف منسجمة مع مبادئها، أو أن تكفّ عن استخدام لغة الأخلاق متى تعارضت مع مصالحها. إن كانت المؤسسة قادرة على تجميد عضوية روسيا خلال أيام، فلماذا تصمت أمام حرب إسرائيل التي حصدت أرواح أكثر من 64.5 ألف فلسطيني، وأكثر من 163 ألف جريح، وما يزيد عن 9 آلاف مفقود، ومجاعة قتلت 393 فلسطينيًا؟ وإذا كانت معايير التدخل رياضية لا سياسية، فلماذا عوقبت روسيا أصلًا؟
إن ازدواجية المعايير، أكثر حدّة من الحرب ذاتها. هي ما يقتل مصداقية المنظومة العالمية، رياضيًا وأخلاقيًا. نحن بحاجة إلى السلام الحقيقي والوئام النقي، دون تجميل أو نفاق، فقد ملّ العالم من تحكّم زمرة من النافذين في مصير ثمانية مليارات إنسان.