المركزي التونسي من أداة حماية إلى أداة تقييد نقدي

الإصرار على إبقاء الفائدة مرتفعة دون مراجعة أو تدرج في خفضها بداعي مكافحة التضخم، يعكس انغلاقًا فكريًا ومؤسسيًا قد يقود البلاد إلى مأزق أعمق مما نتصور.
الجمعة 2025/08/01
تكاليف المعيشة كابحة للاستهلاك والنمو

لم يكن البنك المركزي التونسي يومًا بعيدًا عن موقع المسؤولية في ضمان استقرار الأسعار وحماية العملة وتنظيم السيولة في السوق، وهي أدوار جوهرية يفترض أن تصبّ في مصلحة المواطن العادي والمستثمر على حد سواء. إلا أن هذا الدور الوقائي بدأ يتحوّل تدريجيًا إلى ما يشبه “أداة تقييد نقدي” تتحكم في الاقتصاد من الأعلى وتخنق قدراته بحجة محاربة التضخم، حتى وإن كان ذلك على حساب النمو والاستثمار ورفاه التونسيين.

لماذا يصر صناع القرار على إبقاء الفائدة في مستويات مرتفعة عند 7.5 في المئة، في حين أن أغلب الاقتصادات المشابهة لوضعية الاقتصاد التونسي، بما في ذلك العربية، وحتى الاقتصادات المتقدمة شرعت على مدار أشهر في الهبوط المرن في السياسة النقدية؟

يبدو أن السلطات لم تنتبه حينما كتبنا قبل أكثر من عام مقالا بعنوان “ضرورات المرونة النقدية لتنفيس الاقتصاد التونسي” نشر على أعمدة صحيفة “العرب” في يوم 24 يونيو 2024 نحث فيه على أهمية البدء في دورات التسيير النقدي حتى يتم إعطاء النمو والأعمال دفعة نحو التعافي لأن التضخم لم يعد بذلك السوء الذي كان قبل 24 شهرا من ذلك الوقت.

◄ المعركة النقدية ليست مجرد أرقام وبيانات في السجلات فقط، بل إنسانية واجتماعية في جوهرها، لأنه بلا تشاركية في اتخاذ القرارات لن نقدر على الخروج سالمين من الأزمة المالية والاقتصادية

يبدو أنها لم تنتبه أيضا لمواقف الخبراء الاقتصاديين وللكثير من الدعوات المماثلة في مختلف وسائل الإعلام بشأن حتمية تخفيف السياسة النقدية.

منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا في بداية 2022، اعتمد المركزي سياسة نقدية متشددة، تتجلى أبرز ملامحها في الإبقاء على الفائدة في مستويات مرتفعة، وصلت إلى حدود لم يعرفها الاقتصاد التونسي منذ عقود بواقع 8 في المئة. برّر المسؤولون هذا التمشي بضرورة كبح التضخم والحد من تراجع قيمة الدينار.

هذه الأهداف لا يمكن التشكيك في وجاهتها من حيث المبدأ، لكن الإشكال يكمن في أن الوسيلة المعتمدة لتحقيقها تحولت إلى غاية في ذاتها، دون أن تُقاس كلفتها الحقيقية على الاقتصاد.

ارتفاع الفائدة ليس مجرد إجراء تقني، بل هو سياسة ذات تبعات اجتماعية واقتصادية مباشرة. فكلما ارتفعت كلفة الاقتراض، انكمشت شهية الاستثمار، وتقلصت فرص توليد المشاريع، وتراجعت قدرة المؤسسات على التوسع والتشغيل. كما تؤدي هذه السياسة إلى تقليص الاستهلاك، خاصة في مجتمع يعيش جزء واسع منه على القروض الاستهلاكية، ما يفرز ركودًا مضاعفًا في الأسواق.

الأسوأ من ذلك أن هذه الوضعية النقدية القاسية لم تنجح فعلًا في كبح التضخم كما يأمل واضعوها، بل ساهمت في تغذيته من زاوية أخرى عبر ارتفاع كلفة الإنتاج والتمويل.

في بلد كتونس، حيث يعاني النسيج الاقتصادي من هشاشة هيكلية، ويفتقد القطاع الخاص للدعم الكافي، تبدو هذه السياسة أشبه بوصفة مضادة للانتعاش. فالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي تمثل عماد الاقتصاد المحلي، تجد نفسها مضطرة للتعامل مع بنوك لا تمنحها التمويل بسهولة، وإن منحته فبشروط فائدة مرهقة. هذا يعني أن المركزي لا يمنع فقط السيولة الزائدة، بل يمنع أيضًا الأمل في النمو.

ما يزيد الطين بلة أن هذه السياسة تُدار في ظل غياب واضح لحوار فعّال بين مختلف الأطراف الاقتصادية، وكأن البنك بات يتحرك في برج عاجي، غير معني بتداعيات قراراته إلا من زاوية التوازنات النقدية والتقارير الفنية التي لا تعكس بالضرورة واقع المعاناة اليومية للمؤسسات والمواطنين.

◄ ارتفاع الفائدة هو سياسة ذات تبعات اجتماعية واقتصادية مباشرة. فكلما ارتفعت كلفة الاقتراض، انكمشت شهية الاستثمار، وتقلصت فرص توليد المشاريع، وتراجعت قدرة المؤسسات على التوسع والتشغيل

اللافت أن الحكومة، العاجزة أصلاً عن وضع خطة إنقاذ اقتصادي شاملة يمكن أن نلمسها في الواقع رغم ما تبذله من جهود وفق رؤية القيادة السياسية ممثلة في الرئيس قيس سعيد، وجدت في سياسة المركزي ذريعة للتنصل من مسؤولياتها التنموية، فتركت التونسيين في مواجهة الغلاء، والمؤسسة في مواجهة الإفلاس، تحت شعار “استقلالية البنك المركزي”.

هذا التمشي يتناقض مع ما ذهبت إليه عدة دول، خاصة في مراحل الركود، حيث اعتمدت البنوك المركزية سياسة تيسير نقدي لتشجيع الاستثمار وتحفيز النمو، ثم تدخلت لاحقًا لتعديل الكفة حين استقرت الأوضاع. لكن في تونس يبدو أن الخوف من الانهيار المالي أصبح المحرك الأوحد للسياسات، دون اعتبار للبعد الاجتماعي أو التنموي أو حتى للواقع السياسي.

ليس المطلوب من المركزي أن يكون ذراعًا شعبوية تطبع الأموال أو توزع القروض عشوائيًا، بل أن يكون فاعلاً متوازنًا يُدير أدواته وفق رؤية كلية تتكامل فيها السياسة النقدية مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة. أما الإصرار على إبقاء الفائدة مرتفعة دون مراجعة أو تدرج، فهو يعكس انغلاقًا فكريًا ومؤسسيًا قد يقود البلاد إلى مأزق أعمق مما نتصور.

لقد تحوّل البنك، بكل أسف، من أداة لحماية الدينار ومكافحة التضخم إلى أداة لخنق ما تبقى من روح المبادرة الاقتصادية. وهو ما يجعلنا نطرح السؤال المحوري: هل المطلوب هو الحفاظ على استقرار وهمي في مؤشرات التضخم، أم إنقاذ اقتصاد حقيقي يتداعى؟

الإجابة عن هذا السؤال يجب أن تتجاوز أروقة البنك نفسه وتصل إلى دوائر القرار السياسي، لأن المعركة النقدية ليست مجرد أرقام وبيانات في السجلات فقط، بل إنسانية واجتماعية في جوهرها، لأنه بلا تشاركية في اتخاذ القرارات لن نقدر على الخروج سالمين من الأزمة المالية والاقتصادية التي طالت أكثر من اللازم.

10