شيخ الأندية التونسية يدفع ثمن العشوائية
انتهت نشوة المشاركة في مونديال الأندية لكرة القدم ببداية متعثرة لشيخ الأندية التونسية الترجي الرياضي في بطولة موسم 2025- 2026. هذه الانتكاسة تثير القلق أنّ الفريق العريق الذي اعتاد أن يكون مدرسة في الانضباط والقوة الذهنية والفنيات العالية بات اليوم مرآة لعشوائية تتراكم فيها الأخطاء، حتى فقد النادي شيئًا من هويته التي صنع بها مجده.
الترجي يعيش هذه الفترة واحدة من أسوأ مراحله وأكثرها إرباكًا لجماهيره، ليس فقط على مستوى النتائج المخيبة، وإنما كذلك بسبب الصورة المهزوزة التي يقدمها الفريق. لم يعد الحديث مقتصرًا على هزيمة في مباراة أو إقصاء من منافسة قارية، بل بات مرتبطًا ببنية متصدعة في التسيير وغياب رؤية واضحة على الصعيد الفني والتكتيكي.
الجماهير لطالما كانت تنتظر من لاعبيها أداءً مقنعًا يعكس قيمة الشعار الذي يحملونه، لكنها تجد نفسها أمام فريق يفتقر إلى أساسيات اللعبة، حيث تتكرر الأخطاء نفسها، وتغيب الروح الجماعية، ويبدو اللاعبون وكأنهم مجرد أفراد غير متجانسين يركضون بلا خطة واضحة.
الإصلاح قد يكون صعبًا لكنه ضروري، وإذا لم يقع الآن فستكون الكلفة في المستقبل أضعاف ما يعيشه النادي اليوم
لا يمكن اختزال الأزمة في اسم مدرب أو لاعب بعينه، لأنّ ما يحدث أعمق من ذلك، إنه خلل هيكلي بدأ من سوء التسيير الإداري، مرورًا بغياب مشروع رياضي حقيقي طويل المدى.
المتابع الحصيف يلاحظ أنّ صاحب أربعة ألقاب أفريقية لم يعد يفرض أسلوبه على خصومه كما كان يفعل في الماضي، بل صار يتلقى الدروس التكتيكية من فرق متوسطة المستوى. المفارقة أن النادي يمتلك إمكانيات مالية وبنية تحتية تجعله في وضع أفضل بكثير من أندية منافسة، لكن ما ينقصه هو عقلية التخطيط والاستمرارية.
التغيير المتواصل في الإطار الفني دون وضوح في الاختيارات جعل من الفريق حقل تجارب دائما، كل مدرب يأتي برؤيته، ثم يغادر قبل أن تترسخ أي بصمة، لتبقى النتيجة ذاتها: ضياع هوية لعب وعدم استقرار تكتيكي.
أما على مستوى الانضباط الفني، فقد باتت الفوضى سيدة الموقف. اللاعبون يفتقدون التركيز. يتكرر ارتكاب الأخطاء الفردية الكارثية، وتكثر ردود الأفعال غير المنضبطة. هذا يطرح سؤالًا عن طبيعة الرقابة الداخلية ومدى جدية الإطار الإداري والفني في فرض قواعد صارمة تحفظ هيبة النادي.
“المكشخة” كانت في الماضي قدوة في الانضباط، والآن أصبح النادي نموذجًا للفوضى التي لا تليق بفريق يملك تاريخًا من البطولات القارية والمحلية. هذا التراجع لا يقل خطورة عن التراجع الفني.
الشق الآخر من الأزمة – إن صح التعبير – يكمن في ضحالة الفنيات لدى العديد من اللاعبين الحاليين. الترجي لم يعد يستقطب الأسماء المميزة كما في السابق، ولم يعد يكوّن لاعبين قادرين على إحداث الفارق بمهاراتهم الفردية. الفريق يعتمد على عناصر محدودة المستوى لا تملك القدرة على مجاراة نسق المباريات القوية أو تقديم الإضافة المرجوة في اللحظات الصعبة.
هذا دليل على أن سياسة الانتدابات إما عشوائية وإما خاضعة لحسابات لا علاقة لها بالمصلحة الفنية. جمهور الترجي لم يعتد رؤية لاعبيه عاجزين عن تجاوز خصوم متواضعين أو عن القيام بأبسط تمريرة صحيحة، وهذا ما يجعل حالة الغضب مضاعفة.
"المكشخة" كانت في الماضي قدوة في الانضباط، والآن أصبح النادي نموذجًا للفوضى التي لا تليق بفريق يملك تاريخًا من البطولات القارية والمحلية
النتائج إذن ليست سوى انعكاس طبيعي لمشهد عام تتداخل فيه الفوضى الإدارية مع غياب المشروع الرياضي وضعف مستوى اللاعبين وانعدام الانضباط الفني. الترجي اليوم يحتاج إلى مراجعة شاملة، ليس بقرار ارتجالي ولا بتغيير مدرب فقط، وإنما عبر إصلاح هيكلي يبدأ من إدارة واعية بمسؤوليتها التاريخية، مرورًا بإعادة صياغة مشروع يرتكز على تكوين الناشئة واستقطاب لاعبين ذوي قيمة مضافة حقيقية، وصولًا إلى فرض الانضباط كقيمة لا تنازل عنها.
من دون ذلك سيظل الفريق يدور في حلقة مفرغة، ينتقل من أزمة إلى أخرى، ويهدر رصيدًا تاريخيًا بناه على مدار عقود من العمل والإنجازات.
التدارك ممكن إذا ما توفرت الإرادة في مواجهة الواقع بدل الاكتفاء بالشعارات. الجماهير التي صبرت طويلًا لن تغفر استمرار هذه الحالة، والوقت قد حان لإعادة النادي إلى سكته الصحيحة. فالترجي ليس مجرد نادٍ عادي، بل مؤسسة كروية لها رمزيتها، وأي استهتار بمكانته هو ضرب في تاريخ كرة القدم التونسية كلها.
الإصلاح قد يكون صعبًا لكنه ضروري، وإذا لم يقع الآن فستكون الكلفة في المستقبل أضعاف ما يعيشه النادي اليوم.