محمد فتحي عبدالعال لـ"العرب": إعلام اليوم لا يشارك من قريب أو بعيد في معركة الوعي

المزج بين العلم والأدب وسيلة لإنقاذ الأجيال الجديدة.
الاثنين 2025/07/14
أراهن على العلم محورا أساسيا في العمل الأدبي

يواصل الكاتب والدكتور المصري محمد فتحي عبدالعال مشروعه التنويري الذي يمزج العلم بالأدب والبحث والنقد. في هذا الحوار مع "العرب"، نفتح معه نوافذ الرؤية، ونسبر أغوار فكره، لنتعرف على رحلته الأدبية، وعلى رؤاه في قضايا الفكر، والتاريخ، والمجتمع، وكيف يواجه القارئ العربي المعاصر بأسئلته الجريئة وأطروحاته المستنيرة.

في زمن تتعالى فيه ضوضاء السطحية وتتراجع فيه أسس الفكر العميق، يطل علينا قلم لا يهادن الجهل، وباحث لا يساوم على الحقيقة، وروائي يتقن فن الحفر في الذاكرة والتاريخ، إنه الدكتور محمد فتحي عبدالعال، الكاتب والباحث المصري الذي استطاع أن يجمع بين دقة العلم وثراء الأدب، ليصوغ لنا أعمالا فكرية وأدبية تُلامس العقل والوجدان معًا.

الروائي عبدالعال له سلسلة أرشيف الصحافة المصرية الممزوج بقراءات تاريخية متباينة العصور والأزمنة وأحكام عقلية ونقدية بصبغة علمية تجعل القارئ على مشارف أعمال مكتملة الزوايا والأركان تثير شغفه واهتمامه، وهي كتب “صفحات من التاريخ الأخلاقي بمصر” و”نوستالجيا الواقع والأوهام” و”تاريخ حائر بين بان وآن” وكتاب “هوامش على دفتر أحوال مصر”.

العلم والأدب

يقول الكاتب محمد فتحي عبدالعال لـ”العرب”، “كانت البداية مع مرحلة الصغر وكنت أقرأ بنهم وشغف في التاريخ القديم والمعاصر وأشعر باستمتاع في سماع الحكايات والقصص والمواقف التي يتناولها والدي وأقرانه وأقاربي في أسمارهم. كنت أحيانا استشعر المبالغة في بعض القصص وعدم المنطقية في قصص أخرى مما ولد لدي الرغبة في أن أكتب انطباعاتي عن الحوادث وشهودها وأحيانا ما كنت أجد في القصة والرواية والمسرحية قوالب مناسبة للتعبير عن الأفكار والتحرر في معالجة الحوادث واختلاق الشخوص المكملة. كانت محاولات غير جادة حين أنظر إليها اليوم.”

التلاقي بين العالمين العلمي والأدبي لهو من قبيل التلاحم اللازم والمحمود لسير أمة تسعى للحداثة بخطى سريعة

ويضيف “مع دخولي المرحلة الجامعية وما تبعها من دراسات عليا صقلت تجربتي بتنوع القراءات وتتبع المصادر المختلفة واستطعت أن أتسلح بأدوات حاكمة وفاصلة لا تأتي إلا بالممارسة العقلية والعملية والأدلة والبراهين، فأصبحت في كتبي عارضا ومناقشا وحكما وقدمت أول عمل أرصع فيه التاريخ بالعلم حمل عنوان ‘على هامش التاريخ والأدب’ وضعت فيه الأقاصيص والأحاجي في ميزان العلم، وعلى هذا الدرب الممتع استكملت طريقي ولم يفارقني هذا المذهب في جميع كتاباتي بكل أشكالها. لذلك أستطيع القول إن رحلتي في بداياتها نحو الكتابة والرواية لم تكن مخططة لها بل وضعتني في طريقها الصدفة وظروف النشأة، لكن لم تلبث مع الوقت أن تحولت إلى خطة محكمة لها أهداف وإطار زمني محدد وقياسات أحكم بها على مخرجات التجارب الكتابية المتنوعة سلبا وإيجابا.”

عن سبب دفعه بين البحث العلمي والكتابة الأدبية يقول عبدالعال “يحتاج المحيط المصري والعربي المعاصر إلى العلم كطريق لا حياد عنه نحو النهوض والابتكار والتقدم وبلوغ منازل الدول المتقدمة. لذا لا بد أن يشغل العلم المساحة الأكبر في دوائر اهتماماتنا وأن يكون للعقل ومذاهبه احترام وتقدير وأن يوضع في سياق تبادل الآراء والرؤى لخلق مناخ فكري مبدع خلاق، يشارك فيه الجميع فيبني ويشيد لنهضة وطيدة الأركان قوية الدعائم عنوانها ‘تكاتف الفريق المتجانس نحو بلوغ دروب العلم أينما كانت’. ونحن في زماننا هذا أشد حاجة إلى ذلك من أي وقت مضى.”

ويتحدث الكاتب عن أبرز الكُتاب والمفكرين الذين أثّروا في مسيرته الأدبية والفكرية وهم، كما يقول، كثيرون، أولهم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في الجانب الأدبي، والدكتور منير الجنزوري والدكتور أحمد مستجير في مضمار تبسيط العلوم ومستحدثاتها وتقديمها بلغة سهلة ومبسطة تناسب القارئ العادي المتطلع إلى التنوع الثقافي، والأستاذ محمد حسنين هيكل في العرض التاريخي الثري متعدد الجوانب وغيرهم من الكتاب والمفكرين والمثقفين.

o

تسأل “العرب” عبدالعال كيف يوفّق بين كونه باحثا علميا وروائيا في الوقت ذاته؟ وهل هناك تلاق بين العالمين في كتاباته؟ ليجيبنا “الممارسة الكتابية لسنوات عدة تمخض عنها ما يقرب من أربعين مؤلفا لي في مجالات متنوعة جعلت من الكتابة العلمية – في قالب أدبي قصصي أو روائي أو مسرحي – أسلوبا مستحدثا ومميزا لي في التعامل والتعاطي مع كل ما كان تراثيا أو معاصرا وله جذور في الماضي وطرح القضايا من جوانبها المختلفة بشكل يشحذ الفكر ويحرك الذهن ويثير الفضول ويعيد للعقل منزلته بأسلوب هادئ ومتزن ورزين وعادل، وكثيرا ما أترك النهاية في النقاش للقارئ للحكم كتدريب ومران على منهجي الذي ارتضيته في الكتابة العلمية التاريخية الدينية الأدبية. هذا التلاقي بين العالمين العلمي والأدبي لهو من قبيل التلاحم اللازم والمحمود لسير أمة تسعى للحداثة بخطى سريعة وترصد وتواجه الظواهر المجتمعية السلبية وتتصدى للخرافات بالمنطق والعقل وتضعها في نصابها من العلم الحديث.”

ويضيف “طبعا بلا شك لقد قدمت ولأول مرة عبر روايتي ‘ساعة عدل’ مجال الجودة الطبية الشاملة وإشكالياته في شكل أدبي قصصي طريف، واستعرضت قضايا طبية وعلمية عدة بشكل مبسط وسهل، وأعتبر هذه المرحلة شديدة الأهمية في مسيرتي الكتابية التي تتجه صوب العلم كمحور أساسي في العمل الأدبي.”

نسأل الكاتب المصري إن كان يعتقد أن الرواية يمكن أن تكون أداة فعالة للتنوير ونشر الوعي المجتمعي، فيقول “حسب الموضوعات التي تتناولها الرواية نستطيع الحكم على نجاعتها كأداة فعالة في التنوير ونشر الوعي. فالروايات التي تناقش حوادث تاريخية بكافة أبعادها، وتعيد إحياء تحديات ماضية ومعارك فكرية وقصص كفاح، خليقة في وجهة نظري أن تتصدر المشهد الثقافي وعلى نفس المسافة تظهر الروايات العلمية – بعيدا عن الإغراق في الفانتازيا – لما لها من دور وأثر في بناء العقل المصري والعربي المعاصر ووضعه على أعتاب المستجدات والمستحدثات العلمية الهامة والنافعة والبارزة.”

الكثير من أعمال عبدالعال تمس قضايا فكرية وتاريخية حساسة، يعلّق حول ذلك قائلا “هدفي هو اكتمال الطرح التاريخي للحوادث الماضية بشكل غير مسبوق وموسع يعتمد حياة المهمشين والعوام والبسطاء والفقراء ضمن النسيج التاريخي ويضعهم ولأول مرة في تاريخنا المعاصر في دائرة الضوء، علاوة على العمل بجد على سد ثغرات التاريخ وإزالة الغموض عن الكثير من مواقف صانعيه وعرض وجهة نظر الآخر التي اختزلها كتّاب التاريخ الذين انتصروا لوجهة نظر واحدة بنوا عليها حكما تاريخيا صارما مع أن النظر في وجهات نظر صانعي الحدث يثريه وطريقنا في ذلك أرشيف الصحافة المصرية دائما والمذكرات الشخصية أحيانا، مما يظهر وبجلاء أن الخطأ والصواب في الكثير من القرارات والحكم على الحوادث نسبي ولا يمكن أن يعول فيه على وجهة نظر طرف واحد لمجرد بقائه وشهرته مقارنة بمعارضيه الذين لم تتح لهم وسائل الشهرة أو البقاء فتواروا واندثروا.”

الخشية من المواجهة والدخول في معارك فكرية غير متكافئة والحشد الجماهيري غير الواعي أبعدت العقول عن نقد التراث

ويضيف “لم يحدث أن واجهت تحديات مطلقا في مسيرتي الإبداعية. بالعكس وجدت تشجيعا وترحيبا في تناول المواضيع الجدلية طالما تراعي الأسس العلمية والمنهجية في إعادة قراءة التاريخ ومن ثم طرحه بشكل مختلف وواثق وواع يمزج بين العلم والدين والتاريخ بانتقالات منطقية وبأسلوب سهل وسلسل وذكي في التناول والتفكير مع القارئ.”

وعن سبب غياب الخطاب النقدي الواعي عن بعض القراءات التاريخية أو الدينية في عالمنا العربي، يقول “الخشية من المواجهة والدخول في معارك فكرية طويلة وغير متكافئة أهم عامل في هذا الإحجام عن التناول النقدي للمرويات التراثية المجافية للمنطق والعقل، علاوة على الحشد الجماهيري – دون وعي منهم – للتصدي الآلي لأي نقاش حر مما يجعل الكثير من النقاد والباحثين يخشون فقد قاعدتهم الجماهيرية في أتون هذه المعارك، فيؤثرون السلامة ويختارون الدعة والهدوء ومسك العصا من المنتصف.”

بسؤال “العرب” له عن العمل الأقرب إلى قلبه، لم يتردد عبدالعال في القول إن لكل كتاب مكانة خاصة، لكنه يعترف بأن هناك أعمالا تترك أثرا وجدانيا أعمق من غيرها. من بين كتبه، يبرز عمل “رواق القصص الرمضانية”، والذي يعتبره نقلة نوعية ومرحلة وسطية في طريق كتاباته التي اعتمد فيها أرشيف الصحافة المصرية القديم كمحطة معلوماتية تحقق للقارئ اكتمال الصورة والمناخ المحيط بالحدث التاريخي والمتصل دوما بحياة العوام والبسطاء ودورهم الغائب والمغيب في مسيرة التاريخ المعاصر، علاوة على رؤية الشخصيات العامة سواء أكانت تاريخية أو ثقافية أو اجتماعية وغيرها من زوايا مختلفة تعيد إليهم الاعتبار في مواطن وتظهر الخفايا والأسرار والضعف الإنساني في مواطن أخرى.

أما الكتاب الثاني فهو “فانتازيا الجائحة” وقد أكمل فصوله أثناء أدائه للعمرة بالمشاعر المقدسة وهو امتداد لعمل موسوعي وضعه عن جائحة كوفيد – 19 وهو يرصد الطرائف والغرائب حول العالم التي أحاطت بالجائحة وأعقبتها.

نظرة إلى المستقبل

g

في ظل عالم يتغير بوتيرة متسارعة، وتيارات فكرية وثقافية متباينة تتجاذب عقول الشباب العربي، يوجّه الدكتور عبدالعال رسالته للشباب بروح المعلّم المؤمن بقدرتهم على أن يتحلوا بالصبر والتحمل وقوة الإرادة وأن تتسع مداركهم لقراءة أدوات زمانهم واستثمارها بشكل صحيح، لا محاكاة تجارب من مضوا وحسب.

يقول “بلا شك تجارب السابقين ملهمة، ولكن لكل زمان معطياته وبنيته وآليات التقديم الحديث للتجارب وعرضها بوسائل مبتكرة وجذابة ووسائل النجاح فيه، وزماننا هو زمان الذكاء الاصطناعي الذي غزا كافة المجالات وعلينا أن نمتلك رؤية عصرية، واعدة، واقعية بقدرتنا على استثماره بما يحقق أهدافنا الحالمة والطموحة.”

ينظر الكاتب عبدالعال إلى مستقبل الثقافة والوعي في الوطن العربي بنظرة تمزج بين القلق والأمل. فهو يدرك حجم التحديات التي تواجه العقل العربي، وتنشئة جيل واع قادر على التطوير والإسهام في قضايا وطنه وتحديد مصير أمته. يقول “هنا وهنا فقط يبنى الوعي الحقيقي الباقي والمستمر لعقود، وبين أجيال مختلفة تتبادل الرايات، لكن لا تتخلى أبدا عن المبادئ والقيم والأخلاق الجامعة والموروثة.”

لا يُخفي الكاتب عبدالعال خيبة أمله من المشهد الإعلامي العربي المعاصر، حين يتعلّق الأمر بالكُتاب والمفكرين الحقيقيين. فبرأيه، ما زال الإعلام ــ في الكثير من الحالات ــ ضعيفا حتى وإن بدا ظاهريا مضيئا ولامعا وبارزا.

يقول “إعلام اليوم لا يفرز الكتّاب الحقيقيين والمفكرين المستحقين، ولا يشارك من قريب أو بعيد في معركة الوعي، وأكثر ما يثير شهية بعض وسائل الإعلام تسليط الضوء على ‘التريندات’ والطرائف والغرائب دون تمحيص للنافع منها والضار. وهنا مكمن المشكلة. قد يتذرع البعض بالحرية المكفولة لكافة التجارب. قول محق ولكن الحرية دون تبني فكر أخلاقي وقيمي حقيقي حاكم تصبح عشوائية مقيتة وتجهيلا متعمدا وتدفع المجتمعات نحو المجهول في نهاية الأمر.”

13