الروائي فواز حداد: الثقافة السورية لم تقدّم سوى النفاق على مدى نصف قرن
يجمع الروائي السوري فواز حداد بين الجرأة الأدبية والصوت الناقد الذي يتمسك برغبته في أن يُكتب التاريخ السوري عبر تشريح الألم والمراحل المعقدة التي مرّ بها الشعب، وتحديدا المثقف الذي يعتبره مرآة لمجتمعه، وقد اختار في آخر تصريحات له أن يفكك طبيعة المثقف والمجتمع السوري، مقدما تقييمه الخاص للمشهد الثقافي السوري خلال نصف القرن الماضي.
دمشق - يُعدُّ الروائي السوري فواز حداد أحد أبرز الأصوات الأدبية التي لم تساوم على الحقيقة، ومنذ بداياته يسأل التاريخ والسياسة والثقافة، كاشفا المسكوت عنه، حيث يخوض بجرأة في قضايا كبرى مثل السلطة والقمع والصمت ومآسي التاريخ المحلي. وانعكس موقفه المناصر للثورة السورية في أعماله، حيث انتقد في عمله الأخير “الروائي المريب” من أسماهم “مثقفي الضباب” الذين تواروا خلف الشعارات، بينما كانوا امتداداً للفساد والانتهازية، مؤكداً مسؤولية المثقف وحرية التعبير في مواجهة القمع والتحولات الصعبة.
في آخر تصريحاته لوكالة الأنباء السورية، تناول حداد رؤاه حول الحركة الثقافية السورية خلال نصف قرن، وعلاقته بالثورة كأديب صنع أعماله، مع التركيز على تقنيات الكتابة والسخرية السوداء التي استخدمها لمواجهة قسوة الواقع، مؤكدا مسؤولية المثقف والحرية الأدبية في زمن التحولات العاصفة.
عاد الروائي السوري إلى عبارة مثقفي الضباب، ليوضح مقصده منها حيث قال إن “مثقفي الضباب هم الذين أخفوا مواقفهم الحقيقية وتلونوا مع تبدل الظروف السياسية، ورفعوا شعارات يسارية وتقدمية، بينما انحازوا للنظام الدكتاتوري، واتهموا المعارضين بالطائفية والإرهاب، وبعد 2011 ظهروا بوضوح مع تصاعد المظاهرات والقمع، فبدل أن يكونوا إلى جانب المثقفين الحقيقيين الذين اعتُقلوا أو استُشهدوا، مارسوا الانتهازية بأبشع صورها، وعبر تاريخ الثقافة السورية كانوا مع النظام والمعارضة في آن واحد، يغيرون مواقعهم حسب موازين القوى، محميين من السلطة، بينما ظل المخلصون مطاردين.”
نظام الأسد نجح في إنتاج ثقافة غير نقدية قائمة على الرضوخ والشلل، تراوحت بين الموالاة والحياد والدعاية
ويرى حداد أن الرقابة الرسمية وغياب استقلالية الكاتب أسهما في إضعاف الثقافة السورية، مشيرا إلى أنه “على مدى نصف قرن، نجح نظام الأسد في إنتاج ثقافة غير نقدية قائمة على الرضوخ والشلل، تراوحت بين الموالاة والحياد والدعاية، ولم تقدّم سوى النفاق، رغم اختراقات مهمة في الأدب والفنون حققها أفراد وتجمعات صغيرة إلى جانب كم كبير من الأعمال التافهة، ومع اندلاع الثورة لجأ مثقفون معارضون إلى الخارج حيث أتاح لهم المناخ الديمقراطي حرية الإبداع، بينما اضطر من بقي في الداخل إلى الصمت تجنباً للملاحقة.”
ويشدد على أن “من حصيلة هذا المشهد يظهر أن الثقافة حملتها قامات محدودة، بينما كانت تمثل الثقافات الوافدة سطحاً وتقليداً بائساً، وإذ غابت الحرية واستقلالية الكاتب، سادت الرقابة وتكرس الرقيب الداخلي، إلى جانب الرقابات الرسمية من اتحاد الكتاب والإعلام والسلطة، ما حال دون قيام ثقافة حقيقية.”
محاولات تمرد

يُعد فواز حدّاد من أبرز الروائيين السوريين المعاصرين، وُلد في دمشق عام 1947 وتخرج في كلية الحقوق، لكنه اختار أن يكرّس حياته للأدب والكتابة. بدأ مسيرته الأدبية في أوائل التسعينات برواية “موزاييك، دمشق 39″، ومنذ ذلك الحين أثبت مكانته كروائي يتعامل مع القضايا العميقة في المجتمع السوري، ويغوص في التاريخ والسياسة والهوية عبر نصوص ذات طابع سردي مميز.
في أحدث كتاباته “الروائي المريب” قدّم سردًا لاذعًا وعميقًا عن علاقة الكاتب بالسلطة والمجتمع، طارحا تساؤلات حادة حول دور المثقف وحدود حرية التعبير في بيئة قمعية.
تتناول الرواية قصة روائي يجد نفسه متورطًا في شبكة من الشبهات والرقابة والتأويلات، لمجرد أنه كتب رواية، فيتحوّل فعل الكتابة نفسه إلى جريمة محتملة. بأسلوبه الساخر والنافذ، يكشف حدّاد هشاشة الوضع الثقافي في ظل السلطة، ويعرّي الخوف الذي يتحكّم في العلاقات بين الكاتب والمؤسسة والقارئ.
وفي إجابة عن سؤال هل من الممكن اعتبار “الروائي المريب” رواية شخصية أو سيرة ذاتية؟ يقول حداد “ليست ‘الروائي المريب’ رواية شخصية أو سيرة ذاتية، وإن كانت تستعير أحياناً من حياة الكاتب كما حدث في ‘جمهورية الظلام’ أو عبر مواقف وتجارب وظفها لخدمة النص، هي رواية عن أجيال من المثقفين وتيارات أدبية شكلت مفاهيم، وليست عملا توثيقيا، بل هي سرد لأحداث وشخصيات وتحولات ومحاولات للتمرد في عالم قاسٍ على الأدب، أنصف قلّة من المبدعين وترك آخرين في الغبن، بينما صعد أدعياء الثقافة الباحثون عن المنافع والشهرة الزائفة.”
وفي روايته هذه وظف الكاتب السوري تقنية الشخصية الغائبة باعتبارها نمطا أدبيا فريدا ومعاصرا، عن سبب تفضيله هذه التقنية يقول “في هذا النوع الروائي، يكون الغياب أبلغ من الحضور، إذ يثير الغموض والتساؤلات ويخلق هالة تعزز تأثير الشخصية وتجعل حضورها مؤكدا عبر غيابها، هذا الغياب يمنح الرواية ديناميكية وتوترا، ويعكس زئبقية الشخصيات وتعقيد المشاهد الخفية، لم أختر هذه التقنية بل فرضتها الرواية نفسها، لأنها تكشف متغيرات غير مستقرة وظهورا خاطفا يعكس ما تختزنه الحياة من مجهول، وباختصار، هو عنصر ذو إمكانات واسعة إذا أُحسن استثماره، ليجعل الغائب حاضرا.”
ويوضح حداد أنه “في رواية سابقة وهي ‘المترجم الخائن’ تعرضتُ للمثقفين بشكل مباشر، لكن كان هذا عن زمن ما قبل الربيع العربي، بينما ‘الروائي المريب’ عن حدث حاضر هو زمن الأسد الابن وبالتحديد فترة الثورة السورية، ما وضع حدوداً واضحة وحاسمة بين النظام والشعب، كما أن لها امتدادات نحو الخلف، حيث استطاع النظام في الفترتين ضبط الثقافة، وذلك بربط اتحاد الكتاب بحزب البعث والمخابرات، واعتماد أشخاص ليسوا من الموالين فقط، بل من الموثوقين أيضا، حازوا على رضا الأجهزة.”
ويعتبر أن “هذه المركزية جعلت التحكم بالثقافة سهلاً إلى حد أنها عطلتها، وأدت في الواجهة إلى ظهور شلل من الأدباء يتنافسون على المناصب والمنافع، بينما الأغلبية معتم عليهم، وعلى نسق الدكتاتور انتشرت عقلية الأوحد في الثقافة: الأوحد في الرواية، الأوحد في القصة، الأوحد في الشعر، مع الهروب من إشكالات المجتمع، وتجاهل القمع والفساد، كذلك عدم التطرق بشكل جدي إلى تصحير المجتمع من السياسة، وقد انعكس ذلك على الأدب، بدعوى أن الفن لا علاقة له بالسياسة، وإذا تطرق لما يجري، فكان باستثمار آلام الضحايا، واعتماد سردية الإرهاب. هذا ما فعله النظام، كمم الثقافة، ما أنتج ثقافة زائفة ومثقفين زائفين.”
كشف للحقيقة
"الروائي المريب" ليست رواية سيرة ذاتية؛ هي رواية عن أجيال من المثقفين وتيارات أدبية شكلت مفاهيم
يميل فواز حداد في أعماله التي رصد فيها الثورة السورية والواقع السياسي إلى السخرية رغم ما فيها من ألم وسوداوية، وفي حديثه عن ذلك يقول “يوظف الروائي على الرغم من تراجيدية الأحداث، أسلوب السخرية الذي يعزز نقده بحدة ويكشف تناقضات المشهد الثقافي، حيث تتحول الثقافة أحياناً من ضمير حي إلى أداة للتحايل على الحقائق وتجميل القبح وترويج الشعارات الفارغة تحت غطاء الوطنية، وتغدو السخرية وسيلة للتعرية، تفضح انحدار مدّعي الأدب رغم زخرفة خطابهم، ولأن الواقع أسود فهي سخرية سوداء تواجه ثقافة زائفة حرسها لسنوات صغار الأيديولوجيا بعقلية قمعية استبعدت الأصوات الحقيقية وأقصت المبدعين.”
وعقب سؤال: إلى أي درجة يجد أنه من الضروري بقاء المأساة السورية موجودة في الأدب السوري والنتاج الإبداعي؟ شدد حداد على أن “المأساة السورية رغم حضورها القوي، بدأت رحلتها نحو التاريخ لتظل شاهدة على تضحيات الأجيال، ولتُذكّر بعدم تكرارها مستقبلاً، الأدب والرواية تنهلهما من التاريخ، فتبقى مادة حاملة للحقائق الكبرى والعِبَر والدروس، وشهادة على عظمة البشر في مواجهة القهر، لم تكن المأساة السورية مجرد جرح، بل مذبحة ومحرقة، حرباً شاملة في بلد صغير، راح ضحيتها الملايين، وكانت محطتها الكبرى إسقاط دكتاتورية شمولية رثة.”