"جسد النص".. حصيلة خمسة عقود من التفاعل الحي مع الشعر العربي

عبدالله السمطي: القصيدة جسد حي لا يتكرر.
الاثنين 2025/08/04
النص الشعري صيغة إنسانية وصورة حياة ووجود (لوحة للفنانة ليلى كبة)

تحتاج التجارب الشعرية المعاصرة إلى قراءات نقدية مختلفة تكشف عن أهم أساليبها ومميزاتها خاصة ما يكتب في قصيدة النثر. ولعل هذه القراءات تجنب الشعر الكثير من فوضى المعايير التي شابته. في هذا الإطار يتنزل كتاب الناقد والشاعر المصري عبدالله السمطي "جسد النص بين الصلب والترائب".

تبدلت خرائط الشعر العربي، وتزاحمت فيها الأجناس والأساليب، لذا يشكل كتاب “جسد النص بين الصلب والترائب” للناقد والشاعر عبدالله السمطي وثيقة نقدية استثنائية، لا تكتفي بتأريخ تحولات القصيدة الحديثة، بل تنفذ إلى أعماقها، تفكك جسدها، تراقب نبضها، وتتحسس عظامها وترائبها، حيث لا يرى السمطي في القصيدة مجرد كلمات تسكن على الورق، بل يراها مخلوقا لغويا له صلبٌ تتكئ عليه بلاغته، وترائب تنبض عبرها حواسه، وله جلدٌ لغوي تتخلله الرؤى، ودمٌ يسري فيه هو الإيقاع والتخييل والدهشة.

الكتاب، الصادر عن دار الأدهم للنشر في طبعته الأولى 2025، يمثل حصيلة خمسة عقود من التفاعل الحي مع الشعر العربي، ويقف بمثابة مانيفستو نقدي جمالي يعلن أن القصيدة، مهما تنوعت أشكالها، تبقى جسدا حيا لا يتكرر، حيث يتكون من خمسين دراسة ومقالة، تشكل الدراسات الأولى به جسد النص، فيما تشكل بعض الدراسات والمقالات النظرية صلب البنى الشعرية إذ تتناول مجموعة من الآليات والتقنيات الفنية التي ترتكز عليها القصيدة في حال إبداعها، أما الترائب النقدية فهي تمثل قراءات خاصة لدواوين شعراء عرب ومصريين.

القصيدة كيان

"جسد النص بين الصلب والترائب" وثيقة نقدية استثنائية، لا تكتفي بتأريخ تحولات القصيدة الحديثة، بل تنفذ إلى أعماقها
"جسد النص بين الصلب والترائب" وثيقة نقدية استثنائية، لا تكتفي بتأريخ تحولات القصيدة الحديثة، بل تنفذ إلى أعماقها

في مقدمة طويلة عميقة، يضع السمطي تصورا عاما لفكرته المركزية، يقول “تتزن البنية الدالة للنص الشعري حين يضحى خطابه التعبيري والجمالي مركوزا على أنساق وقيم، ومؤسسا على التشكلات الراسخة في الخلق الإبداعي، ومؤثثا كذلك على صور وبلاغات وأشكال وتوجهات فنية قد تتداخل وتمتزج فتتوالد منها عناقيد إبداعية متعددة، تترك مساحات كبيرة للتلقي والتأويل، ولا تقف عند كينونة فنية أحادية بل تلملم مكامن الذات في مكامن العالم، وتمهد أرضية خلاقة من الجنون الإبداعي الفذ. هكذا يحيا النص الشعري، وتتمدد القصيدة إلى قرائها ومتلقيها من جهة، وإلى أبعادها وأعماقها الزمنية والتاريخية من جهة أخرى”.

ويضيف “إن النص الشعري هو صيغة إنسانية، وهو صورة حياة ووجود وعالم مرئي ولا مرئي، وأصداء ميتافيزيقا، ووحي وإلهام، ونبض قلب وروح وحواس ووعي ولا وعي معا، ولذلك فإن اللغة التي يؤدى بها ليست لغة بسيطة، يمكن تداولها على اعتبار أنها تشير إلى معنى ما. النص الشعري لا يشير بل يومئ من بعيد، ولا يقدم لغة توصيلية بالضرورة، بل كثافة لغات، واكتناز رؤى، ودلالات غير جلية بشكل أو بآخر، وهذا النص قرين الإنسان الذي تتوامض أفكاره داخله، فإذا كان هذا الإنسان شاعرا، فإن درجات التوامض تكون أكثر عمقا، حتى لو استعان الشاعر بآليات الكتابة المباشرة، فإن ثمة دلالات تكون خفية وغامضة لا تسلم بوحها بشكل جلي بيّن وواضح”.

ويرى أن كل نص له بنيته، وله قوامه وصلبه وترائبه الصغيرة المكونة له، فاللغة والجمل والكلمات والحروف والإيقاعات والمعاني والدلالات هي صلب النص وجواهره وأيقوناته وعظامه وترائبه، وحين نتعامل مع هذه الأجساد النصية المتنوعة فإننا نتعامل مع سلالات نصية متعددة، لها أشكالها وبنياتها، ومع نطف وبويضات خصبة وخلاقة، تتلاقح جميعا لإنتاج هذا النص الحي الذي نستنطقه بآليات التنظير والتطبيق معا، ونقرأه قراءة حرة خاصة به.

ويشدد على أن كل نص/ جسد له حضوره وسماته وملامحه، كل نص مرتبط بشاعره وشاعرته ارتباطا عضويا، يستقي منهما، ويجري في أوردتهما وشرايينهما، ويعبر عن خلاياهما وجيناتهما. كل نص/ جسد هو صورة من مبدعه، ومن خلاقه، يولد معه، ويكبر معه، ويراهق معه، ويمضي إلى فحولته التعبيرية مع الشاعرة أو الشاعر، حتى يستوي بحضوره المنمق الدال الجميل، لكنه لا يشيخ، بل يخلد مع الزمن، ليقدم هذه الصورة لكل عصر من العصور المقبلة.

في دراسته الموسعة عن قصيدة النثر، يؤكد السمطي أن قصيدة النثر منظومة جمالية لا يتمكن من ممارستها سوى القادرين لغويا وتخييليا. هي ليست ملاذا للهاربين من تبعات اللغة والنحو والعروض والإيقاع كما يظن البعض، إنها – في نماذجها المثالية – فضاء كتابي مفتوح يتلمس إيقاع الوجود ذاته بدراميته وتعدده وتمايزه وتبدي هذه القصيدة مراسها عبر الكشف الدائم عن الشعريات الكامنة في أشياء العالم، وحضورها لا يلغي أي أشكال أخرى لأنها طريقة في الكتابة قد تطغى على اتجاه ما أو تيار في زمن ما وتعاد الكرة لطريقة أخرى، وهكذا يتواتر فن الشعر العربي الذي يشهد من التعايش والتجاور بين شعرياته ما لم يشهده من تحولات تطمس تحولا آخر أو طريقة أخرى.

قراءات نقدية

عبدالله السمطي: النص الشعري هو صيغة إنسانية وهو صورة حياة ووجود وعالم مرئي ولا مرئي
عبدالله السمطي: النص الشعري هو صيغة إنسانية وهو صورة حياة ووجود وعالم مرئي ولا مرئي

يتناول السمطي تجربة ديوان “كأس سوداء” للشاعر نوري الجراح، ويركز على تصويره للكلمات بوصفها كائنات حية تتنفس وتبصر وتنبض. يقول الجراح في ديوانه “الكلمات أشخاص في حفل،/ يقين أضاءه لمعان،/ سيف يهوي من زمان إلى زمان/ يصل/ وينفر دم في المرايا”.

إن الأشخاص تزهو وتزدهي في الحفل، كذلك الكلمات تزهو وتزدهي في سياقاتها الجديدة داخل النصوص الشعرية. لكي تبث يقينها الجمالي في مشاهدها الصورية المختلفة، إنها زمن داخل الزمان وهي السيف الذي يصل من الماضي للمستقبل ويعيد تشكيل دم الوقت في مرايا الوجود، هكذا تفعل الكلمات – حسب نوري الجراح – هكذا تقدم مآدبها البواحة، لتصبح بمثابة دم يسيل في جسد الحياة، في شكل يبتهج فيه الشاعر بدم الكلمات فيردده في مقطع دال عدة مرات ما بين “دم القوة، دم الأمس، دم الاشارة، دم الضحكة الأخيرة على المنشفة دم الفراشة” حتى يصل إلى قوله: الكلمة دم الضحكة.. وزهرتها.

في قراءته لديوان “سر من رآك” لأمجد ناصر، يتوقف السمطي أمام تقنية “الاستقصاء” كآلية تشكيلية ولغوية. لافتا إلى أن المسيطر على نصوص الديوان هو التجانس الأسلوبي عباريا وتعبيريا، فلا مجال لتضاريس تقنية بين نص وآخر، حيث يركز أمجد ناصر في صياغة عباراته الشعرية على العبارات الخبرية والتي تخفي في طياتها إنشائية التصوير، إذ تكثر الأسماء المعرفة والتي يبدأ بها سطوره الشعرية، وكأنه يعيد تلقيب الأشياء بأسماء جديدة، كذلك لا توجد هذه الفوضى العلائقية بين الكلمات وبعضها البعض، كما نرى في الكثير من قصائد النثر. هناك نظام وهناك تخييل على مستوى العلاقات الدلالية، والتصوير، ويركز الناقد على فضاءين أثيرين لدى أمجد ناصر هما: الاستقصاء، وله ضروبه وأنماطه، وتنوع الضمائر.

يقول ناصر في قصيدته “وردة الدانتيل السوداء”.. ولنلاحظ التضاد بين المشهد والعنوان، “الأبيض/ ذو الشامة/ ذو المرمر/ الأبيض العسجدي/ أبيض الفيروز/ أبيض الاستدارة/ أبيض على حواف الزهري/ أبيض تلال بلا مرتقى/ أبيض مخبوء/ ملفوف بالشرائط/ غاف في الساتان/ أبيض الغالب سواه/ الأبيض السليط/ أبيض النوم والندم/ أبيض الغيم الممطر في المخادع”.

قصيدة النثر في رأي السمطي هي منظومة جمالية لا يتمكن من ممارستها سوى القادرين لغويا وتخييليا

إن الاستقصاء يتم عن طريق هذا الترديد في تكوين مدلولات جديدة، يحضر الأبيض فيها باستمرار برمزيته الدالة على الصفاء والنقاء.

وفي قراءة ديوان “رجل من الربع الخالي”، يبرز السمطي كيف تتحول الصحراء في شعر الرحبي إلى أفق تأملي تتخلله المفارقة والفقد، ويؤكد أن الرؤية الجمالية تتحقق عند سيف الرحبي عبر مجالين: الأول دلالي، يحتفي فيه الشاعر بأمكنته ولحظاته ومشاهدات الذاكرة والثاني: تقني، يقدم فيه الرحبي نصوصه في شكل جمالي أسلوبي خاص ومائز.

يقول الرحبي في فضاء نصوصه “بين ليلة وضحاها/ اكتشفت أنني مازلت أمشي/ ألهث على رجلين غارقتين في النوم/ لا بريق مدينة يلوح/ ولا سراب استراحة. وحيدا، وخلف الجبال البعيدة في الذكرى/ … سادرا، أرقب المغيب../ وحيدا من غير أمل/ ومن غير رغبة/ هكذا.. هكذا/ حتى اختفى مع سكان مدينة/ غرقت في البحر./ أو اختفى في كأس./ والآن/ أقف فوق أقصى مراحل النسيان/ حيث الجبل والذئب ينتحبان بأفظع الذكريات/ والأغاني تصعد من أفواه بنات آوى/ مطرزة بالنجوم/ وجدت أفقا يعيد إلي اسمي القديم/ ملفعا بوجوه غائبة/ وأخرى/ ستغيب”.

ويرى السمطي أن الرحبي لا يحتفي بالشخوص بقدر ما يحتفي بالطبيعة، وأن الشعر لديه هو محاولة لترويض العزلة والانفراد بالأمكنة والذكريات.

ويتوقف مع ديوان سركون بولص “بستان الآشوري المتقاعد”، مشيرا إلى أن سركون بولص يبحث عن المجهول دائما، وعن لغته الخاصة المصورة بعين سينمائي شاعر حينا، وبعين تشكيلي أحيانا، ولعل ذلك يتجلى على الأخص في تصويره لشخصياته الشعرية التي تتواتر وتتخلق من مجتمع المدينة، وهي في الأغلب شخصيات مأساوية تحوطها الوحشة والفجيعة والفقد، وهي شخصيات تمثل من جهة ثانية ذروة الدراما الاجتماعية في المجتمعات المدينية.

 يتحدث سركون بولص عن “عامل المصافي الأعزب ذي الأصابع الناقصة، عازف الزانة المارد ورفيقه الطبال، العجائز العمشاوات، البغايا، الممرضة الليلية ذات الحذاء الأبيض الحزين، الموظفون الصغار، الميكانيكي عبدالهادي، السينمائية المنتحرة بحبوب نومها، عابري السبيل، السكير النائم في كابينة الهاتف، العاشق الغبي المتفائل بجراحه، الحرس الليلي، الجار اليوناني، الشحاذ الأعمى، الساحر، الشيطان، الطاغية إلى آخر هذه الشخصيات التي تنضح بدرامية الحياة وصخبها ومأساويتها، فضلا عن أجواء المنافي التي يصوغها سركون بولص شعرا له وهجه الحيوي ونزقه الدلالي، وصياغاته المشهدية اللافتة يقول في “بستان الآشوري المتقاعد”، “النجوم تنطفئ فوق سقوف كركوك وتلقي/ الأفلاك برماحها العمياء إلى آبار النفط المشتعلة في الهواء/ إلى كلب ينبح في الليل مقيدا إلى المزراب حزنا؟/ أو رعبا أو ندما وضفادع تجثم على أعراشها الآسنة/ في بستان مهجور عندما/ تشق حجاب الليل صرخة مقهورة إنه الآشوري المتقاعد يقلع ضرسه/ المنخور بخيط مشمع يربطه إلى أكرة الباب/ ثم يرفس الباب بكل قواه مترنحا/ وهو يئن مغمض العينين إلى الوراء”.

السمطي لا يرى في القصيدة مجرد كلمات تسكن على الورق بل مخلوقا لغويا له صلب تتكئ عليه بلاغته
السمطي لا يرى في القصيدة مجرد كلمات تسكن على الورق بل مخلوقا لغويا له صلب تتكئ عليه بلاغته

وفي تأمله لمشهد شعري من ديوان “أوراق الغائب” للشاعر بول شاؤول، يقول السمطي ما نراه في ديوان “أوراق الغاصب” للشاعر “بول شاؤول” والذي يقدم أنماطا استعارية عدة مضغوطة ومشحونة بشحنات سردية، تقص وتصف وترصد. وقد بلغت جملة الاستعارات في هذا الديوان نحو 202 استعارة بمختلف أنماطها التصريحية والمكنية والمجردة والمرشحة.

ومن يقلب صفحات الديوان المعنون بعنوان واحد هو “أوراق الغائب” لن يعدم في كل صفحة استعارة، أو مشهدا استعاريا كاملا. على الرغم من أن المجال السردي (الكنائي) يشيع في الديوان، بيد أن التقنية البلاغية التي يستثمرها شاؤول في شكل جلي – وهي تقنية منتشرة في الشعرية الغنائية العربية – تقنية التكرار بأبعادها التوكيدية والإيقاعية. وسوف نتخذ نموذجا من بول شاؤول مرجئين البحث عن بنيات التشكيل في قصيدة النثر لمقام آخر، يقول بول شاؤول:

الغائب يفتح عينيه منذ الصباح ولا يراه أحد
المصباح الساهر عليه يبقى ساهرا عليه
الغائب يفتح عينيه منذ الصباح ولا يراه أحد
النافذة الساهرة عليه تبقى مغلقة ساهرة عليه
الغائب يفتح عينيه منذ الصباح ولا يراه أحد
الباب المغلق الساهر عليه يبقى مغلقا وساهرا عليه
الغائب يفتح عينيه منذ الصباح ولا يراه أحد
خطاه التي تستثنيه ترن على بلاط المدينة الفارغة
الغائب يفتح عينيه منذ الصباح ولا يراه أحد
حريق غامض يبصر أمامه.

ثم يعلق “هذا التكرار الذي يوحي بالرتابة والجمود، لا ينكسر إلا عند المفارقة الأخيرة (الحريق)، وهو ما يسميه المؤلف: صورة سردية مفارقة“.

12