"التاجر الصغير بائع القرنفل" رحلة عبر البحر تقدم درسا روائيا في التجارة وتحقيق الذات
 
من عناصر قوة الرواية قدرتها على الخوض في شتى المواضيع بأساليب مختلفة، إنها تمنح فرصة لصناعة الأساطير بطرق هي الأكثر تأثيرا. ولكن هناك مواضيع كثيرة لم تطرحها الروايات العربية، رغم أهميتها، مثل التجارة عبر البحار، وهي نشاطات عريقة في الثقافة العربية، إذ برع فيها العرب أكثر من غيرهم، وهذا ما تتابعه بروح حداثية رواية “بائع القرنفل”.
ثمة، بلا شك، الكثير من الأعمال الروائية العالمية التي تناولت عالم البحر موضوعا، بدءا برائعة أرنست همنغواي “العجوز والبحر”، مرورا بـ”الشراع والعاصفة” لحنا مينا، وانتهاء عند أعمال إبداعية أخرى مختلفة يصعب في هذا السياق حصرها. وهي كتابات تقتضي لا مجرد معرفة بلسان كاتب الرواية فحسب، إنما إلماما بالوسائل والأدوات اللغوية الملائمة للغة البحر والبحارين ولعالمهم المليء بالمفاجآت اليومية.
وفي هذا السياق تأتي رواية “التاجر الصغير بائع القرنفل” للروائي القطري عبدالعزيز بن عبدالرحيم البوهاشم السيد، الصادرة حديثا عن منشورات مكتبة عبدالعزيز البوهاشم السيد التراثية بالدوحة.
 
رحلة نجاح
تقع رواية “التاجر الصغير بائع القرنفل” في 240 صفحة، وتتكون من ثمانية وعشرين فصلا، وهي تتشكل من رحلات قام بها شاب عربي صحبة بوفهد صديق والده. وأثناء هذه الرحلات يكتشف الشاب أهوال البحر، وأخلاق الرجال ومواقفهم، ليبني حياته لاحقا ويصبح اسما مشهورا في عالم التجارة والأموال، وذلك بعد فترة من المعاناة قضاها في السجن الذي خرج منه بشهادات ساعدته في التعرف على عدة لغات من ضمنها اللغة الإنجليزية.
يقول بطل الرواية “وقفت على سطح السفينة أراقب المشهد الأخير من زنجبار وهي تبتعد شيئا فشيئا،” ليسافر بعدها إلى الهند ولندن، ثم يعود إلى مسقط رأسه بعد أن أسس عدة شركات كان لها صدى كبير، أوروبيا وآسيويا وخليجيا، ويساهم في عملية بناء الوطن، تاركا وراءه ثروة طائلة استطاع ابنه حمد المحافظة عليها بعد ذلك والمضي في استثمارها.
المتن الروائي كله عن شاب نجح في تكوين نفسه بنفسه رغم المحن التي مر بها، كما أنه كان يريد توصيل رسالة مفادها أن الإنسان عموما، والتاجر بصفة خاصة، لا يستطيع مهما بلغت مكانته أن يبني مجده دون الاستفادة من تجارب الآخرين، وبناء علاقات على أسس واضحة المعالم، لأن التجارة لا تتطلب الربح فحسب، بل تعتمد أيضا على الثقة بالنفس، وخوض غمار الحياة بحلاوتها ومصائبها.
درس في التجارة

يمكننا اعتبار الرواية درسا في النجاح من خلال التجارة، التي نفهم من خلال السرد أنها لا تنحصر في المحيط الأسري أو المحلي، بل تتعداه إلى الانفتاح على صدق المعاملة مع الآخر في الوطن وخارجه، وأن النجاح لا يأتي بالاعتماد على المكتسبات الأسرية فحسب.
وتبين الرواية أن النجاح يجب تأثيثه والعمل عليه مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات المتلاحقة التي يعرفها العالم في الوسائل التي عمل الإنسان على تطويرها في مجال الاتصالات وتحديث عملية التواصل، ذلك أن الباخرة التي كان يركبها التجار في بداية القرن الماضي دخل عليها تحديث كبير، وأن بعض التجارة انتقلت من الخليج أو آسيا إلى أماكن أخرى مثل تجارة “اللؤلؤ” الذي طورته اليابان، علاوة على وسائل التنقل التي اختصرت الوقت في ساعات بعد أن كانت بعض الرحلات تتطلب أياما وأسابيع بل وشهورا.
المتن الروائي كله عن شاب نجح في تكوين نفسه بنفسه وتحقيق ذاته رغم المحن المختلفة التي مر بها
لا شك في أن هذه العملية التحديثية قد أوقفت الملاحة كما كانت معروفة في الخليج، وفي بقية العالم، لكنها عوضت بتجارات أخرى مع بزوغ عصر البترول وما نتج عنه من أعمال أخرى جعلت تلك الملاحة مجرد ذكرى لأحداث عاشها أهل المنطقة من أجل العيش ومواجهة الحياة، وهي، اليوم، تشكل ذاكرة جماعية يفتخر بها القطريون بشكل خاص وأهل الخليج عموما، وقد تركوا بصماتهم الإنسانية والدينية فيها.
يبدأ السرد بالجملة التالية: “سافر معي راشد في صباح يوم هادئ من شهر أكتوبر عام 1931، على ظهر سفينة المحمل (سمحان)،” لينتهي بقول لابنه حمد “لقد بنى لنا هذا الصرح العظيم، ليس فقط بأسطول من الشركات، بل بمؤسسات خيرية وجمعيات إنسانية حول العالم، كان نموذجا حقيقيا لأسطورة التجارة عند العرب، حيث لم تكن التجارة مالا ونقودا فقط، بل كانت أخلاقا وعطاء وثقافة.”
لقد بدأ راشد حياته ملاحظا ومصاحبا لصديق والده، وانتهى به المطاف وقد أصبح رجلا خبيرا بتقلبات الحياة، فقد استفاد من رحلاتها وأفاد الآخرين.
 
    
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
        
      
     
        
      
    