"مؤرخ في غزة": شهادة إنسانية لكاتب فرنسي عايش الإبادة

المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي جان-بيير فيليو يوثق يومياته من داخل القطاع ومن خلف أبوابه وعلى أرضه التي لم تعد موجودة.
الخميس 2025/10/09
ما خلف الدمار قصص أكثر ألما

رغم ما توفره بعض الكاميرات من صور ومشاهد من حالة الدمار في غزة، وحرب الإبادة التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على سكانها، فإن قصصا كثيرة تحدث نجهلها، وهذا ما يحاول تجاوزه المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي جان-بيير فيليو الذي يوثق يومياته من داخل القطاع ومن خلف أبوابه وعلى أرضه التي لم تعد موجودة.

صدر حديثًا في باريس عن منشورات ليزارين (Les Arènes) كتاب يجمع بين الشهادة والتجربة، يحمل عنوان “مؤرخ في غزة: الأرض التي عرفتها وسرتُ عليها لم تَعُد موجودة، ما تبقّى يتحدّى الكلمات”، وهو من تأليف المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي جان-بيير فيليو.

يقع الكتاب في 224 صفحة، قدّم فيه المؤلف يوميات توثيقية حية، يروي من خلالها ما آل إليه قطاع غزة من دمار وانهيار بعد عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل فجر السبت السابع أكتوبر 2023، والتي شملت هجومًا برّيًا وبحريًا وجويًا وتسللاً إلى عدة مستوطنات في غلاف غزة.

غزة خلف الأبواب

◙ الكتاب ليس مجرد وصف لحرب، بل رحلة إلى أعماق المجتمع الغزّي، حيث يختبر الإنسان أقصى درجات الهشاشة
الكتاب ليس مجرد وصف لحرب، بل رحلة إلى أعماق المجتمع الغزّي، حيث يختبر الإنسان أقصى درجات الهشاشة

يشير جان-بيير فيليو منذ البداية إلى المعضلة الكبرى في متابعة ما يجري داخل غزة، والمتمثلة في غياب المراسلين الأجانب بفعل سياسة المنع الإسرائيلية. وهكذا لا تصل الأحداث في معظم الأحيان إلى المتابعين إلا عبر روايات منقولة من الخارج. وأمام هذا التعتيم، يكتسب الكتاب قيمته كشهادة نادرة، إذ تمكّن صاحبه في ديسمبر 2024 من دخول القطاع، حيث قضى شهرًا كاملًا عايش خلاله تفاصيل الحياة اليومية لسكانه. علماً أن المؤلف سبق أن أقام في غزة ويعرفها جيدًا، لكنه اكتشفها هذه المرة كأنها "أرض لم يعرفها من قبل."

جان-بيير فيليو، الذي يعرف غزة منذ ثمانينات القرن الماضي ويتقن العربية، لم يكتف بدور المؤرخ البعيد، بل تحوّل إلى "محقق" في الميدان، موثّقًا مأساة إنسانية غير مسبوقة في القرن الحادي والعشرين. فقد نقل بدقة مشاهد القصف وأزيز الطائرات المسيّرة وصياح الديكة عند الفجر، قبل أن تطغى أصوات الغارات على الشريط الساحلي المكتظ بمليون نازح يعيشون في ظروف غير إنسانية: خيام بلا ماء ولا كهرباء ولا وقود، وحياة تختزل في متر ونصف من الطين أو الرمل.

يستعرض الكتاب حصيلة مأساوية: مقتل ما نسبته 2.3 في المئة من سكان القطاع منذ أكتوبر 2023، وتدمير 87 في المئة من المساكن والبنى التحتية، ونزوح أكثر من 85 في المئة من السكان. لكن وراء هذه الأرقام صور حيّة لأناس يعيشون بين المقابر والمدارس والشوارع المفتوحة، حيث تتحول عجلات الدراجات إلى محركات لآلات خياطة، في محاولة للبقاء وسط ما يصفه المؤلف بـ"الهمجية البربرية".

لا يكتفي المؤلف بالتوثيق، بل يوجه اتهامًا صريحًا لإسرائيل بارتكاب "تطهير عرقي"، محمّلًا المسؤولية للدول الغربية والعربية التي سمحت، بصمتها أو بتواطؤها، باستمرار المأساة. كما ينتقد بشدة الولايات المتحدة بوصفها "داعما شبه غير مشروط" لإسرائيل، ويؤكد أن النظام الدولي انهار وعجز عن حماية المدنيين، كاشفًا رهانات سياسية "مغلوطة" أفرغت الفضاء العام من أي معيار إنساني.

◙ جان-بيير فيليو، الذي يعرف غزة ويتقن العربية، لم يكتف بدور المؤرخ البعيد، بل تحوّل إلى "محقق" في الميدان
جان-بيير فيليو، الذي يعرف غزة ويتقن العربية، لم يكتف بدور المؤرخ البعيد، بل تحوّل إلى "محقق" في الميدان

بين التاريخ والإنسانية

الكتاب ليس مجرد وصف لحرب، بل رحلة إلى أعماق المجتمع الغزّي، حيث يختبر الإنسان أقصى درجات الهشاشة. ومن خلال يومياته، يضع الكاتب القارئ أمام دروس مؤلمة وأسئلة ملحّة: كيف تتحول العدالة إلى فكرة هامشية؟ كيف يغدو التضامن مجرد ذكرى بعيدة؟ وكيف يختزل الناجون أفقهم في حدود خيمة أو غرفة صغيرة؟ وهكذا يصبح "التحدي" عنوان المقاومة الوحيد أمام آلة جهنمية تجد الدعم من معظم القوى الغربية الكبرى التي تدّعي الدفاع عن الحقوق الإنسانية و"السهر" على تطبيق العدالة وهلم جرا.

جان-بيير فيليو ليس غريبًا عن قضايا الشرق الأوسط؛ فهو أستاذ في معهد العلوم السياسية بباريس، وقد تُرجمت أعماله إلى خمس عشرة لغة. ومن أبرز كتبه “العرب، مصيرهم ومصيرنا”  و”جنرالات، عصابات وجهاديون”، و”وسط العوالم: تاريخ علماني للشرق الأوسط”، و”الشرق الأوسط المدهش”، غير أن كتابه "مؤرخ في غزة" يعدّ عملًا استثنائيًا، لأنه يزاوج  فيه بين المعرفة الأكاديمية والشهادة الإنسانية المباشرة.

الكتاب وثيقة مؤلمة وصادمة تكشف واقع "السجن المفتوح" الذي أصبح قطاع غزة عنوانه الأبرز. ليس مجرد كتاب في التأريخ، بل صرخة ضمير في وجه عالم يفضّل الصمت أمام فظائع تُرتكب على مرأى ومسمع الجميع.

1

8