"الأسير".. رواية تعيد تركيب العلاقة بين الذاكرة الفردية والجماعية في الجزائر

محمد دحو يفتح جراحات العشرية السوداء واضعا المثقفين في الواجهة.
الثلاثاء 2025/10/07
محاولة لشفاء جراح الماضي (لوحة للفنان محمد إيسياخم)

مساءلة الذاكرة والربط بين الأزمنة والأماكن والأفكار، مهمة الرواية المعاصرة، التي لم تعد تكتفي بتقديم الحكايات الممتعة أو الأفكار البرّاقة والجماليات الفنية، بل صارت وسيلة كشف وعلاج للمجتمعات، خاصة من تلك الجراح العميقة التي يصعب شفاؤها وتجاوزها. وهذا ما تؤكده رواية "الأسير" للكاتب الجزائري محمد دحو.

باريس- تظل العلاقة بالوطن علاقة استثنائية متجذّرة في وجدان الإنسان، مهما أبعدته الظروف عن أرضه. فالهجرة طلبا للعلم أو سعيا وراء الرزق لا تمحو ذكريات الطفولة والشباب ولا تُطفئ شعلة الحنين إلى التراب الأول. من هنا ينهل الروائي الجزائري محمد دحو عمله الروائيّ الجديد “الأسير”، الصادر عن المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية بالجزائر، في 171 صفحة من القطع المتوسط.

الرواية ليست مجرد سرد لتفاصيل شخصية، بل هي نص يعيد تركيب العلاقة بين الذاكرة الفردية والجماعية، وبين الواقع السياسي والاجتماعي الذي عرفته الجزائر في محطاتها العصيبة.

صرخة المثقف

◄ الرواية لا تكتفي بالتوثيق بل تقدم رؤية جمالية وفكرية تضيء واقعا معقدا عاشه الجزائريون وما زالت آثاره حاضرة

◄ بذكاء يضع الكاتب التاريخ في مواجهة واقع العشرية السوداء التي حوّلت الجزائر إلى ساحة دم ورصاص

اعتمد الكاتب أسلوبا مقتضبا بجمل قصيرة مكثفة، تسمح له بالتحكم في إيقاع النص المشحون بالتوتر. فالسارد لا يقف على الحياد، بل يشارك في الأحداث، ويقدّم شهادة على زمن تتقاطع فيه الهزات التاريخية الكبرى مع الأوجاع اليومية للناس.

تتمحور بعض أحداث الرواية حول رسام جزائري يقرر اقتناء لوحة فنية من مزاد يُقام في قصر “مكين”. لكن رحلته لتحقيق هذا الحلم تتحول إلى سلسلة من التحديات: بيع ممتلكاته، مواجهة الفقر، معايشة قصص حب مأساوية، ثم تجربة قاسية في مستشفى للأمراض العقلية. يضطر لاحقا إلى التخفي باسم شقيقه الراحل، فيما تلاحقه أشباح فقدان الأم التي رحلت بسبب السرطان.

هكذا يصبح الفن وسيلة للمقاومة، واللوحة رمزا للبحث عن معنى وسط عالم مرتبك.

تجول الرواية بين الماضي البعيد والراهن المؤلم. يوظف النص حكاية يحيى الزواوي، الأسير الجزائري في مالطا خلال القرن السابع عشر، ليخلق جسرا بين الماضي والحاضر. فالاستعمار والأسر والاغتراب، كلها ثيمات تتكرر عبر الأزمنة. وبذكاء، يضع الكاتب هذا التاريخ في مواجهة واقع العشرية السوداء التي حوّلت الجزائر إلى ساحة دم ورصاص.

لا تغفل الرواية عن استحضار جرح الإرهاب، حيث كانت الكلمة في الكثير من الأحيان الهدف الأول للرصاص. لقد أراد المثقفون أن يمنحوا لحياتهم معنى بالقلم، فكان نصيبهم الاغتيال أو الإقصاء. هنا يبرز موقف الكاتب الذي يقدّم المثقف مقاوما، يرفض الاستسلام أمام الخراب، ويصر على أن تكون الكلمة أداة للبقاء.

جيل يحلم

تصوّر الرواية جيلا طموحا يرفع شعارات الكبرياء والوعي، لكنه ينهزم أمام غياب الإرادة السياسية وعبث الخطابات المستهلكة. ومع ذلك، يظل البطل يقظا، يحاول أن يبني مشروعا ذاتيا قائما على إرادة فردية لا تنكسر، رغم الفقدان والانكسار.

“الأسير” نص يمزج بين الحنين والجرح، بين الأمل والانكسار، ويضع القارئ أمام أسئلة الهوية، الحرية، والمصير. هو عمل يليق بأن يُقرأ على أنه شهادة أدبية على مرحلة تاريخية، وفي الآن ذاته، نص أدبي غني بالرموز والدلالات.

يؤكد الروائي محمد دحو من خلال “الأسير” أن الأدب الجزائري ما زال قادرا على مساءلة الذاكرة والتاريخ، وعلى أن يكون صوتا للذين لا صوت لهم.

 الرواية ستجد صداها لدى النقاد والقراء، لأنها لا تكتفي بالتوثيق، بل تقدم رؤية جمالية وفكرية تضيء واقعا معقدا عاشه الجزائريون وما زالت آثاره حاضرة حتى اليوم.

ويُعدّ محمد دحو واحدا من الأصوات الأدبية الجزائرية التي راكمت تجربة مميزة في مجال السرد. وإلى جانب اهتمامه بالقضايا الاجتماعية والسياسية، يولي عناية خاصة لثنائية الذاكرة والهوية، وهو ما يتجلى بوضوح في روايته “الأسير”.

سبق للكاتب أن قدّم أعمالا قصصية ونقدية لاقت صدى في الأوساط الثقافية، ويُعرف بكتاباته التي تمزج بين الحس الجمالي والوعي التاريخي، ما يجعله من الأسماء البارزة في المشهد الروائي الجزائري المعاصر.

8