"فلسطين، جرحنا".. شهادة فكرية وأخلاقية على مرحلة خطيرة من التاريخ الإنساني

إدووي بلينيل يضع الإنسانية أمام مرآة قاسية تكشف الازدواجية والعجز.
الاثنين 2025/10/20
القضية الفلسطينية امتحان دائم للإنسانية

كشفت القضية الفلسطينية الازدواجية الكبيرة التي تشوب الخطاب الغربي حول القضايا الإنسانية، لتفضح زيف نظام كامل بناه على امتداد قرون من حقوق الإنسان والديمقراطية والتحرر وغيرها. ودفع ذلك أصواتا من الكُتّاب والمفكرين في الغرب نفسه إلى الوقوف جديا ضد ما يعتبرونه انهيارا قيميا تواجهه الإنسانية اليوم في تعاملها المريب مع قضية الاحتلال.

باريس- إن المتابع للإصدارات والكتابات حول القضية الفلسطينية يلاحظ أنها شحيحة، وما يصدر حولها يحتاج إلى غربلة وتأمل كبيرين، لأنها تُتناول في الغالب من زوايا مجحفة وغير موضوعية. وفي المقابل، يسود الصمت أو يُمارَس الإقصاء والتهميش تجاه الكتابات الموضوعية. وفي هذا السياق، يندرج كتاب الإعلامي الفرنسي البارز إدووي بلينيل (Edwy Plenel)، مؤسس ومدير موقع ميديا بارت، الصادر تحت عنوان «فلسطين، جرحنا» (Palestine, notre blessure) عن دار النشر الفرنسية لا ديكوفرت في باريس.
يقع الكتاب في نحو 150 صفحة، ويضم مجموعة من المقالات التي كتبها بلينيل حول القضية الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة، مع مقدمة جديدة تتناول البعد الإنساني والكوني لهذه القضية التي “تمسّ جوهر القيم العالمية.”

فلسطين مرآة العالم

إدووي بلينيل يفضح نظام ما بعد الحرب الثانية
إدووي بلينيل يفضح نظام ما بعد الحرب الثانية

يُعيد بلينيل، في هذا العمل، التأكيد على أن القضية الفلسطينية لم تكن يومًا مسألة محلية تخصّ شعبًا بعينه، بل هي قضية العالم بأسره، لأنها تمتحن مفهوم العدالة والمساواة بين الشعوب والأمم منذ عام 1948، وتكشف بوضوح أزمة القانون الدولي “الذي يتهاوى اليوم” تحت وطأة ما يسميه الكاتب «الميثاق الأميركي – الروسي الجديد»، حيث تسعى كل من الولايات المتحدة وروسيا إلى فرض «قانون القوة» بدلاً من «قوة القانون.»

يعود المقال الأول في الكتاب إلى مطلع عام 2009، وهو موجَّه إلى الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، مرورًا بمقالاته خلال العدوان على غزة عام 2014، وصولاً إلى آخر مقالاته في أكتوبر 2024، بعد عام من حرب الإبادة على القطاع.
وقد حافظ بلينيل على خطّ ثابت في موقفه، محذرًا من أن الكارثة ليست آتية، بل جارية بالفعل “فالدعم الغربي الأعمى لحكومة بنيامين نتنياهو لا يخدم سوى مصالح الأنظمة الاستبدادية، وعلى رأسها فلاديمير بوتين، ويقوّض ما تبقّى من مصداقية الغرب حين يتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.”

كما يقدّم الكاتب دليلاً صارخًا على هذه الازدواجية من خلال تصويت إسرائيل، يوم الرابع والعشرين من فبراير 2025، إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا ضد قرار في الأمم المتحدة يدين العدوان الروسي على أوكرانيا.
يقول بلينيل “هكذا يتجلّى الانحراف الأخلاقي للغرب، الذي ينادي بسيادة القانون حين تتعرّض مصالحه للخطر، وينقضه حين يتعلق الأمر بفلسطين.”

يربط المؤلف، في فصول كتابه الأحد عشر، بين المأساة الفلسطينية وبنية النظام الدولي الحديث الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية على أنقاض الاستعمار، دون أن يتخلّص فعليًا من “ذهنيته الاستعمارية”. فالقضية الفلسطينية، في رأيه، هي الامتحان الدائم لما إذا كانت الإنسانية قد تجاوزت فعلًا مرحلة “التفوّق العِرقي” و”الحق في السيطرة”، اللذين شكّلا جوهر المشروع الاستعماري الغربي. يقول بلينيل: “في جوهر الاستعمار تكمن فكرة التفوّق، ومن ثمّ اللامساواة، أي إنكار المبادئ العالمية التي تدّعي الديمقراطيات الغربية أنها أعلنتها أمام البشرية. وهذا الانحراف قاتل، إذ يولّد همجية تُفقد الحضارة إنسانيتها.”

كما يشير الكاتب إلى أن أصواتًا نزيهة داخل إسرائيل نفسها حذّرت منذ عام 1967 من هذا الانحدار. ففي الثاني والعشرين من سبتمبر من ذلك العام، نشر اثنا عشر مواطنًا إسرائيليًا نداءً في صحيفة هآرتس، حذّروا فيه من أن احتلال الأراضي الفلسطينية سيقود إسرائيل إلى الانحطاط الأخلاقي والسياسي، مؤكدين أن “دولة تضطهد شعبًا آخر لا يمكن أن تبقى ديمقراطية.”

الكاتب لا يكتفي برصد الأحداث، بل يربطها ببنية الفكر الغربي الحديث مبيّنًا ازدواجية المعايير وانهيار النظام القيمي

“تلك النبوءة المأساوية”، كما يقول بلينيل: “تحققت أمام أعيننا اليوم: فباسم الأمن تُمارَس الإبادة، وباسم الدفاع عن النفس يُبرَّر القصف العشوائي، وباسم محاربة الإرهاب يُغتال الأطفال والنساء.”

يُصرّ بلينيل على أن فلسطين ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، بل قضية البشرية جمعاء، لأنها تمسّ جوهر القيم التي يزعم الغرب الدفاع عنها: الحرية، العدالة، المساواة، والكرامة الإنسانية.
ويقول الكاتب: “من يقبل الظلم الواقع على الفلسطينيين، يفتح الباب لظلم جديد في مكان آخر. ولذلك فإن مستقبل القانون الدولي، بل مستقبل العالم نفسه، يتوقف على قدرتنا الجماعية على قول كلمة واحدة: كفى. كفى للاحتلال، كفى للقتل، كفى للصمت.”

ويختم بلينيل مقدمته بنداء إنساني مؤثّر: “فلسطين هي مرآتنا، وجرحها هو جرحنا جميعًا. وما لم نُضمّد هذا الجرح بالعدل، فلن يكون هناك سلام ولا إنسانية مشتركة.”

الحياد والتواطؤ

القضية الفلسطينية لم تكن يومًا مسألة محلية تخصّ شعبًا بعينه
القضية الفلسطينية لم تكن يومًا مسألة محلية تخصّ شعبًا بعينه

يركّز الكتاب أيضًا على الدور المدمّر الذي تلعبه الصحافة الغربية في تغطية القضية الفلسطينية. فالتحليل الإعلامي الغربي، خصوصًا الفرنسي، يقوم غالبًا على سرديات مسبقة تنفي الموضوعية وتعيد إنتاج الرؤية الاستعمارية القديمة.
فعندما يعبّر شباب الجاليات العربية أو المسلمة في فرنسا عن تضامنهم مع فلسطين، يُوصمون بـ«الإسلاميين» أو «المتطرفين»، بينما يُنظر إلى المتعاطفين مع إسرائيل كمدافعين عن «القيم الجمهورية» و«الديمقراطية». وهكذا يتم تطويع الخطاب الإعلامي ليخدم السياسة، فتختفي الحقيقة وراء شعارات زائفة عن الأمن ومكافحة التطرف.

ويشير المؤلف إلى أن العديد من وسائل الإعلام الفرنسية تبرّر أفعال إسرائيل مهما بلغت من عنف، بينما تُشيطن كل مقاومة فلسطينية، حتى تلك التي تنطلق من الدفاع عن الوجود ذاته.
إنها – كما يقول الكاتب – “إعادة إنتاج للذهنية الكولونيالية التي ترى في الفلسطيني كائنًا ناقصًا لا يملك حق تقرير مصيره،” وهي ذهنية تغذيها القوى اليمينية المتطرفة التي باتت تجد في دعم إسرائيل واجهة لتبرير سياساتها العنصرية في الداخل الفرنسي.

يرى بلينيل أن أخطر ما يواجه القضية الفلسطينية اليوم ليس فقط الانحياز الغربي، بل أيضًا صمت العالم العربي وتطبيع بعض أنظمته مع الاحتلال، في الوقت الذي تتعرض فيه غزة لأبشع أشكال التدمير. وينوه إلى أن بعض الحكام العرب يواصلون تجاهل الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، متذرّعين بحسابات سياسية واقتصادية قصيرة النظر، ما جعل صوتهم في المحافل الدولية خافتًا ومجزّأً.

ورغم هذه العزلة، ظلّ بلينيل صامدًا في مواقفه، رافضًا الرضوخ لحملات التشويه والتهميش التي طالت كل من تجرأ على نقد إسرائيل أو الدفاع عن الفلسطينيين في فرنسا. وقد أهدى كتابه إلى إلياس صنبر وليلى شهيد، تقديرًا لالتزامهما الأخلاقي وكتاباتهما الصادقة دفاعًا عن الحق الفلسطيني.

القيمة الفكرية للكتاب

بلينيل يُعيد التأكيد على أن القضية الفلسطينية لم تكن يومًا مسألة محلية تخصّ شعبًا بعينه بل هي قضية العالم بأسره

يتميّز كتاب «فلسطين، جرحنا» بكونه ليس مجرد تجميع لمقالات صحفية، بل شهادة فكرية وأخلاقية على مرحلة خطيرة من التاريخ الإنساني يختبر فيها العالم مدى صدقه مع نفسه.
فالكاتب لا يكتفي برصد الأحداث، بل يربطها ببنية الفكر الغربي الحديث، مبيّنًا كيف أن ازدواجية المعايير – من أوكرانيا إلى فلسطين- تنذر بانهيار “النظام القيمي الذي قام عليه الغرب بعد الحرب العالمية الثانية.”

ورغم صدور الكتاب في مايو 2025، فإنه لم يحظَ بالاهتمام الذي يستحقه، لا في الغرب ولا في العالم العربي، فالإعلام الغربي تجاهله عمدًا لأنه يفضح السردية الرسمية، بينما الإعلام العربي اكتفى بالصمت أو بنقل الأخبار دون تحليل أو متابعة فكرية حقيقية.

إن قراءة كتاب «فلسطين، جرحنا» تضعنا أمام مرآة قاسية. فهي لا تكشف فقط تناقضات الغرب وازدواجية خطابه، بل تفضح أيضًا عجز العالم العربي عن إنتاج خطاب ثقافي مقاوم يوازي قوة الدعاية الصهيونية. ففي زمن تتداخل فيه الأكاذيب مع الحقائق، يصبح صوت المفكرين الأحرار من أمثال بلينيل ضرورة أخلاقية، لا مجرد موقف سياسي. لأن فلسطين ليست قضية جغرافية محدودة، بل اختبار للإنسانية جمعاء: هل ما زالت قادرة على رؤية الظلم ورفضه؟ “فما دام جرح فلسطين نازفًا، سيبقى جرح العالم مفتوحًا.”

8