"الشجرة التي هبطت من السماء" رواية من قرية بعيدة تفتح أبواب التأويل

عزالدين جلاوجي يكتب قصيدة سردية في مديح الحياة والتآخي.
الأحد 2025/09/28
أناس يناضلون من أجل قيم التعاون (لوحة لنصرالدين ديني)

من المعلوم أن طريق نجاح أي كاتب متعلق أساسا بقدرته على بناء عوالمه انطلاقا من بيئته المحلية بحكاياتها وشخصوها وأحداثها وأماكنها، يصهر كل ذلك عبر ثقافته، ويكشف لنا عالما حيّا، لا مجرد جماليات باردة أو مستوردة. الكاتب الجزائري عزالدين جلاوجي من الكتاب الذين أتقنوا الغوص في المحلي لاستخراج حكاياته بعناية ووعي.

في عمق الذاكرة الجمعية، تتوارى الحكايات، تتشابك خيوطها وتتمازج مع تجارب إنسانية عابرة للثقافات، تتقاطع في القيم العليا التي توحد البشر: المحبة، الإخاء، كسر الحواجز المصطنعة، ومجابهة قوى الظلم والفرقة.

 ضمن هذا الأفق الإنساني الرحب، تندرج رواية الكاتب الجزائري عز الدين جلاوجي “الشجرة التي هبطت من السماء”، الصادرة حديثاً عن “دار المنتهى للطباعة والنشر والتوزيع” بالجزائر، في 555 صفحة، موزعة على أربعين فصلاً، وخمسة “سيناريوهات”: الخبة الهاربية، حميمن الفائق، قطوف ذاتية، بساتين السراب، ورحلة فداء.

حكاية قرية

كاتب يبدع من صميم الذات والواقع المحلي
كاتب يبدع من صميم الذات والواقع المحلي

يمضي الروائي في بناء عالمه السردي انطلاقاً من حياة قرية جبلية وادعة، تحتضن شجرة عتيقة، إرثاً من إرث الأجداد، منذ أزمان غابرة. تلك الشجرة، التي باتت القرية تُعرف بها، تشكل نواة حكائيه تغتني بالأساطير والأقاصيص، حيث يلتقي الواقعي بالعجائبي، ويستحضر السرد بذكاء ملاحم ثورة التحرير الجزائرية، منقوشة ببطولات رجالها ونسائها.

يتشكل نسيج الرواية من مصائر شخوص يتوقون إلى الحب، كسعد وحيزية، ومن عوالم شخصيات أخرى: طالب القرآن، بلحروز معالج السحر، حكماء القرية الذين يصونون لحمتها الاجتماعية. جميعهم أناس يناضلون من أجل قيم التعاون والتعاضد في وجه معترك الحياة، بتعقيداته وأحلامه المجهضة.

النساء في الرواية لهن حضور بهي: الأمهات، الحكيمات اللواتي يُخمدن نار الفتن، القابلة التي تقوم مقام الطبيب، والأم المثكولة، المكلومة بفقدان شقيق أو ابن أو ابنة. صورة حيزية، عند موتها، تترك ندبة عميقة في ذاكرة القرية، وقد عُرفَت بجمالها وعذوبتها وأخلاقها النبيلة؛ جمال لا يمحوه زمن، ولا يطاله نسيان.

في المقابل، تتسلل إلى المشهد شخصيات سوداء تعمل على بث التفرقة والتآمر. من هؤلاء الطبيب النصراني، الذي تظاهر بمعالجة أهل القرية، فيما كان يخفي وجهاً موغلاً في الشر: متنقلاً بين القبائل بحجة جمع الحكايات الشعبية، لم يكن سوى مستغلّ غريب الأطوار. عنده وُجدت سعدية، ابنة بوسعدية، بعد اختفاء طال أمده؛ استُغلت أبشع استغلال، يندى له جبين الإنسانية.

وكان الأخرس، خادم الطبيب، شاهداً على المآسي، إذ نطق أخيراً، ليكشف عن طفولته المختطفة، وعن سنوات القهر والعذاب، حين أُجبر على تمثيل دور الأخرس، تحت وطأة صنوف مهينة من التعذيب، فُرضت عليه جزاء كل كلمة ينطق بها.

تكشفت جرائم الطبيب النصراني: خطف وقتل، حتى للرضع من أحضان أمهاتهم. سقط القناع عن وجهه الكاذب، وعرف أهل القرية حجم الألم الذي حُفر في جسدهم الجمعي، جرحاً غائراً في جسد القرية الطيب.

رموز روائية

pp

إن قارئ الرواية يلمس ثقافة جلاوجي الواسعة، وإلمامه بالحكايات، والأساطير العربية، والعالمية. تنساب في نسيج الرواية إشارات إلى ساندريون (سندريلا) الفرنسية، وإلى مئة عام من العزلة لماركيز، إلى التبر لإبراهيم الكوني، كذلك إلى أعمال الراحل رابح بلعمري. تشابه الأسماء والأماكن مفهوم، إذ ينتمي الكاتبان إلى ذات الجغرافيا الثقافية التي تسري فيها الحكايات من جيل إلى آخر، وإن بصيغ متباينة.

رواية ‘الشجرة التي هبطت من السماء” تفتح باب التأويل الرمزي: الشجرة، في المخيال الجمعي، ترمز إلى الامتداد، إلى طول العمر، إلى ثبات القيم، إلى طموح الإنسان نحو الاستقرار والنمو. وهي، في الرواية، أيقونةٌ لطموح القرية إلى العيش في سلام وتآخٍ، رغم المحن وخيبات الأمل.

الحب مفتاح أسرار القرية سرّها العميق الذي يفككه الروائي من خلال شخصيات شديدة التنوع تتقاطع أقدارها ببراعة

عودة حيزية في النص تحمل معنى أعمق: عودة الأنثى، المانحة للحياة، بعد زمن عز فيه ميلاد البنات. في هذا إشارة إلى عودة الأمل والتجدد، لأن المرأة هي الينبوع الخفي لخصب المجتمع ونهضته. عودة الحياة إلى الشجرة، وتفتّح الحقول بعدها، لم يكن إلا انعكاساً لهذا المعنى الرمزي العميق. تبلغ الرواية ذروتها عندما تُحمل حيزية إلى القبر، والراوي يُثبت مطلع القصيدة الشهيرة لبن قيطون: “عزّوني يا ملاح في رايس البنات سكنت تحت اللحود ناري مقدّيا.”

قصيدةٌ خالدة، أنشدها الشعراء والمغنون، قصة حب مأساوية تأبى الزوال. في استدعائها، يضع الكاتب لبنة أساسية لبناء الرواية على أسطورة حب، يعصف بها القحط الذي أصاب “الشجرة الروحانية”، أيقونة الحياة. إنها “سر الأسرار”، الشخصية المحورية التي تحتضن الحكاية بين أغصانها المتشابكة، حبٌّ يراوغ العيون، ويحاصرها الحسد. الحب هنا مفتاح أسرار القرية، سرّها العميق، الذي يفككه الروائي من خلال شخصيات شديدة التنوع، تتقاطع أقدارها ببراعة.

هكذا يواصل عزالدين جلاوجي مشروعه الروائي الممتد عبر خمسة عقود. إنه إبداع ينبع من صميم الذات والواقع المحلي. وكما يقول: “لا يمكن للكاتب أن يحقق العالمية إلا إذا انطلق من محليته، من ذاته؛ فالآخر يبحث عنا من خلال أصالتنا.” وهذا هو بيت القصيد الذي يسعى إليه كل مبدع أصيل مشبع بثقافته.