سميرة عبيد تلتقط رموزها الشعرية من البنفسج والبحر والغياب
يعرف المشهد الشعري في الخليج العربي العديد من التجارب الحداثية التي قامت بثورة على الشعر الكلاسيكي، مقدمة رؤى جديدة مختلفة، مشتبكة مع الوجود الفردي والجماعي وقضايا العصر بأساليب فنية مبتكرة. من هذه التجارب تجربة الشاعرة القطرية سميرة عبيد، التي نقرأها عبر أربعة من دواوينها.
إذا كان الشاعر، أيّا كان، يعكس مجموعة من الأحاسيس الإنسانية التي تمنحه التعبير عن آهاته وآلامه وتطلعاته، وانشغالاته الحياتية والجمالية والفلسفية، فهو في السياق ذاته يرصد أحوال المحيطين به، لأنه، وعبر كاميرته الشعرية، إن صح التعبير، يكون على استعداد دائم لمراقبة ومتابعة ما يحدث في العالم. ولذا فهو كائن يتميز بأحاسيس لا يملكها الإنسان العادي، لأنه يتصف بشعور جياش وإلهام متواصل.
ورغم كل ذلك، فهو لا يتحكم في لحظة كتابة الشعر، لأن الشعر، كما يقول الحداثيون، هو انتظار ما لا ينتظر، وتلك حالة قصوى ليست لها علاقة بعوالم الراحة أو الغضب، بيد أنها متصلة بواقع المبدع والكاتب، وبمحيطه الشخصي والأسري والإنساني الذي يحتك به عن قرب. ومن هنا تتبلور إحدى رؤاه التي يرتكز عليها في بناء انفعالاته وفي انتمائه إلى عالم الشعر المضطرب والمكلل بالكثير من المفاجآت.
وبالتأكيد، فإن إبداع الشاعرة القطرية سميرة عبيد هو خير دليل على ما أحاول الإدلاء به هنا، لأنها، برأيي، خلقت لتكون شاعرة ومبدعة، حيث التحقت بعالم الكلمة مبكرا، واستطاعت أن تفتك مكانتها فيه بارتياح كبير، لتغدو أحد الأصوات المتميزة والتواقة في بلدها قطر بشكل خاص، والعالم العربي بشكل عام. ومع بداية ترجمة بعض قصائدها أو كتبها إلى لغات أخرى، وصل صوتها إلى جزء من هذا العالم الفسيح.
ثيمات شعرية

تطرح الشاعرة في ديوانها “أساور البنفسج” عدة قضايا وطنية وعربية وعالمية، ما يشي بوضوح بمتابعتها للأحداث التي مرت على المستوى الشخصي، أو التي يمر بها العالم، خاصة، جاعلة من القضية الفلسطينية مركز اهتمامها، مرورا بما حدث في العراق والكويت ودول الخليج، علاوة على تركيزها على زهرة البنفسج التي هي مصدر للجمال والزينة والرائحة الطيبة، ومادة تشكل جانبا حيويا في حياة الإنسان، نظرا إلى لونها المسر. وهذا ما ينعكس بشكل واضح في قصيدتها “سحر البنفسج” التي مطلعها: “يا… بنفسج/ خذيني لرحيقك/ صوب ما يبهج.” وفي مقطع آخر تقول: “يا… بنفسج/ امنحيني لون قلبك/ أزدهي بضبابه.” إلى أن تقول:
“أخبريني يا بنفسج/ يا مالكة الفتنة الجذلى/ أي سحر/ في أعاليك ترتل.”
هذه قصيدة تلخّص بعضا من الأسرار التي جعلت الشاعرة تتعلق بهذه الزهرة الساحرة والاستثنائية، ولا أبالغ إن قلت إنه لا يخلو أيّ ديوان من دواوينها من ذكر البنفسج، وكأنها ثابتة قيمية تحدد ملامح ونفسية الشاعرة. وهذا ما نجده أيضا يتكرر في ديوانها “تصحو في الغياب”، حيث تحضر ثيمة الغياب التي تغزو الديوان سواء في قصيدتها التي عنونت بها الديوان، مرورا بقصيدة “وردة للغياب” التي تقول في مطلعها: ليس ثمة بين الغياب/ سوى ما كتبه الليل من وراء الزمن/ المضمخ بغصة الطين/ كأنه ظل الطريق إلى الحياة.” مرورا بقصيدة “رسالة من مخابئ الذاكرة” التي تقول فيها: “هوت رسالة من مخابئ ذاكرة الغياب/ وها أنتِ غريبة/ تحت رداء ثقوب الصمت.”
وصولا إلى قصيدة “خروج من ثوب اللغة” التي تقول في مطلعها: “لا شيء يعلو ثلج الغياب/ وما الشعر/ إلا برج للمعنى/ يكسوني الخيال حيا/ من وراء حجاب اللغة.”
يتداخل الغياب مع اللغة ومع فقدان من نحب، ومع ما تخبئه المعيشة من هموم ومشاكل وأفراح وأتراح ومن مفاجآت الحياة التي تتركنا نصطدم بفراق عشيق، أو حبيب، أو عزيز علينا. إذ يبدو أن الشاعرة مرت بأوجاع أثرت فيها وجعلتها تتألم كثيرا. هذا المعنى المباشر الذي نستخلصه من هذا الديوان، غير أن المعنى غير المباشر يتجسد في أن “الصحوة تأتي بعد غياب طويل، بعد صراع مرير، بعد لقاء جميل،” كما تقول الشاعرة. يضاف إلى ذلك وجود “البنفسج” كما نرى في قصيدتها “سطوة الاحتمالات الكبرى” حيث تقول: “حلم واحد لي/ والسماء غائمة/ أين تقفين الآن يا زهرة البنفسج؟”
أما في ديوانها الثالث “شجرة في جذع غيمة”، فنجد أن ثيمة البحر تتردد كثيرا، بل وتتجسد في قصيدتها “لؤلؤة قطر” حيث تقول: “أمشي من هنا إلى هناك/ أسمع البحر/ موجة موجة/ دون أن أدري/ يدخل الرمل شاطئ طفولتي.”
استوقفتني كثيرا قصيدة الشاعرة “خلف نافذة طنجة” التي تحكي عن ذاكرة أهم الكتاب والشعراء الذين مروا منها، بدءا بابن طنجة الروائي الكبير محمد شكري وكتبه، علاوة على الكاتب الأميركي بول بولز، والشاعر الملتزم جان جينيه وغيرهم، لترسم لنا الشاعرة من خلال ذلك بورتريه رائعا حول هذه المدينة بماضيها وحاضرها، بجمالها وغناها، بمتاحفها ودروبها. غير أن البحر يظل يفرض نفسه. في المقابل، نجد ثيمة الصحراء تتكرر في عدة قصائد من ديوانها “بون شاسع”، المتشكل من ثنائيات تلفت الانتباه: بحر وصحراء، مدينة وقرية، الماضي والحاضر.
ولا نتفاجأ بحضور البنفسج حيث تقول في قصيدتها “تحول في الرؤيا”: “خارج الإطار/ تنظر في عيني إلي/ تلوح لي/ أصير لونا بنفسجيا على الجدار/ لا تطاوعني الفرشاة/ كي ألون خطوط اليد بالحناء/ البرتقالي يقاوم البنفسجي.” أو في قصيدة “بنفسجية”، أو في “دورة أخيرة”، حيث تقول: “في العزلة أرسم جدراني بالبنفسج/ كي تتفتت روحي عظام اللحظة.”
تواصل الشاعرة حياكة ثيمات ذات علاقة بهموم الحياة في ديوانها الرابع “لحن بأصابع مبتورة”. ولعل إهداءها المثبت فيه يحيل إلى غضبها على تهميش الكائنات وعدم الاهتمام بها، تقول عبيد “إلى كل المنسيين على سطح هذه الأرض.” حيث تستمر الشاعرة، زيادة على عودتها إلى التاريخ، وذكرها لبعض المناطق مثل “النيل”، “جبل قاسيون”، “بغداد”، نجدها تتطرق إلى الغياب، بعد أن تستدعي آلامها وآمالها العاطفية والإنسانية. وهي تقول في قصيدتها “غياب”: “الغياب خشخشة خريف/ الانتظار كومة دخان/ تبعثرني الريح/ تصفح حرائق غيمتي.”
كما تذكر البحر والصحراء والشوق والحب، ثم نلتقي بالبنفسج في عدة قصائد منها قصيدة “إبرة” تقول في مطلعها: “تهاب العزلة/ مصلا بنفسجيا/ ضوءا خافتا يرش حمرة صفراء/ على ملاية سرير غرفة بيضاء/ ترقرق ستائرها لي خلسة.” أو قصيدة “بنفسجة بغداد” ومطلعها: “شدني الحنين إليك/ يا امرأة حركت بركي/ الآسنة/ فيك أفجر بنفسجتي.” ودون شك، فإن توظيف البنفسج هنا يرمز إلى مناطق مثيرة في جسم الكائنات، ويمنحنا مفاتيح لفهم مقاصد الشاعرة.
إن حضور البنفسج والتركيز عليه في معظم أعمال الشاعرة يوحي بحقل دلالي مفعم بالأحاسيس الإنسانية التي يعبّر عنها علماء اللغة، بأنه رمز للحب العميق والوفاء. كما يمكن استخدامه أيضا في تعزية الأصدقاء والأحباب الذين يعانون من فقدان شخص ما، ويمكن تقديم الورد البنفسجي “كهدية للأشخاص الذين يمثلون الحب والثقة والوفاء في حياتنا.” والبنفسج هو زهرة فصلية عطرة لها ألوان مختلفة: بنفسجية وصفراء وبيضاء، ويشير إلى التواضع والإخلاص. وهو يدل على منح الحيوية لأنه “لون نادر الحدوث في الطبيعة، ونتيجة لذلك غالبا ما ينظر إليه على أنه ذو معنى مقدس… وله مجموعة من التأثيرات على العقل والجسم، بما في ذلك رفع الروح المعنوية، وتهدئة العقل والأعصاب.”
أما دلالة اللون البنفسجي من الناحية النفسية، فهو يشير إلى “مشاعر الهدوء والاسترخاء والصفاء كالسماء والبحار وغيرها.” وهو يعبر أيضا عن “الشخصية النبيلة التي تمتلك القوة والشغف والفخامة، كما أنها شخصية تجمع بين الحكمة والوقار.” وهو لون يحث على “الخيال والعاطفة الرقيقة، ويمكن أن يشجع على الوصول إلى الأفكار العميقة والقيم العليا، كما يعتبر لونا مفضلا لدى الأشخاص من ذوي الحس الإبداعي مثل الكتاب والموسيقيين والشعراء، ويعتبر رمزا للإنسانية والحكمة والتواضع.” وهذا ما يتجلى بشكل واضح في كتابات سميرة عبيد. وقد تناوله الكثير من الشعراء العرب مثل مظفر النواب، وحمودي عبد محسن، ووليد الزريبي، ونزار قباني، وغيرهم.
اشتباك مع القضايا

إن المتابع لأعمال الشاعرة سميرة عبيد يلاحظ شدة مراقبتها للواقع ومتغيراته، وتحولها في أحيان كثيرة إلى الرموز، ما يجعلنا نتمتع بقراءة أعمالها التي يمكن أن نطلق عليها “السهل الممتنع”، أي أن قصائدها تبدو لنا سهلة الولوج إلى تفكيك أسرارها، غير أننا نجد أنفسنا أمام عالم شعري محبوك بقوة القول، وقوة البوح، وغزارة المعاني.
وتتحمل الشاعرة المسؤولية كونها تحاكينا كأنثى، ولا تختبئ وراء ذكر، كما تفعل بعض الشاعرات، بل تذكر أحيانا اسمها كما نرى في قصيدتها “يوم ندي بنت ناصر” من ديوانها “أساور البنفسج”، حيث تقول: “حضرت دروب الياسمين/ هذا باب سميرة/ وهتفت بأعلى الندى/ يا سيدة الورد المخبأ/ يا أحلى من الدنيا وأصفى.”
إن الشاعرة ترسم لنا بعض شذرات من حياتها، بالإضافة إلى تفانيها في الشعر الذي تقول فيه في قصيدتها “حدائق الغياب”: “مجازا أقول/ وطني الشعر/ وفي كل يوم/ تنبت قصيدة/ تنتقي من أريج/ الذكريات.”
بالإضافة إلى الشعر، نتوقف عند ولعها بالموسيقى، خاصة آلة البيانو، التي تجسدها في ديوانها “أساور البنفسج” في قصيدتها “عزف بين الكلام” تقول: “بيانو/ صمت/ ببغاء/ مقعد خشبي/ يعزف المدى/ ورائي شرفة للبحر/ بلون الرماد/ تدون خيبة العرب.”
وتؤكد على هذه الآلة في ديوانها “لحن بأصابع مبتورة” في قصيدة “عازفة” التي تقول في مطلعها: “الحياة بيانو/ تشبه مقعدا خشبيا/ لعازف على شرفة البحر/ الحياة هناك تماما كأنامل.”
ولكن خيبة العرب تتكرر أيضا، وهذا ما أكدته في تقديمي حينما قلت إن الشاعرة ترصد آلام وآمال العرب، أي على مكمن الصدق والتمكن من الأدوات الشعرية التي تطوعها في خدمة قضايا إنسانية معقدة أو جذابة، وتقتنص منها لحظات حب طريدة أو ربما آتية. علاوة على اطلاعها الواسع الذي يتضح من خلال إهداءاتها أو استهلالاتها لدواوينها مثل استشهادها بغاستون باشلار، وأندريه بروتون، أو أدونيس.
لكن المتنبي يبقى، بالنسبة إلى الشاعرة، سيد الشعراء، لأن بعض أبياته موجودة كمفاتيح للمغامرة الشعرية لدى سميرة عبيد، بقوة استحضارها له، واعتمادها بعض أبياته في مشروعها الشعري المليء بالإحالات المركزة على قراءات متنوعة، لتحافظ على مكانتها كشاعرة عربية مشغولة بهموم المرأة العربية، في تحركاتها وتساؤلاتها الكثيرة، في حلة امرأة وشاعرة متصوفة واعية مدركة، لا تلجأ إلى الابتعاد عن الواقع، ولا تريد أن تعيش في برج عاجي، بل تتعبد وسط جمهور قرائها وهي تحب الحياة بكل معاني الحب والجمال.