نتنياهو يستمر في ضرب كل المعادلات
الرجل واثق من عدم سقوط الحكومة، رغم ما شهدته ساحة الرهائن في تل أبيب من تظاهر أكثر من 350 ألف إسرائيلي، لمطالبة الحكومة بالتوصل إلى صفقة تعيد الرهائن وتنهي الحرب في قطاع غزة. فنتنياهو منذ إعلان الحرب في 7 أكتوبر عام 2023، كان قد أعلن عن حرب طويلة باعتقاده ستغيّر الشرق الأوسط وتسقط الاتفاقيات.
شكّك الكثير في قدرة إسرائيل على إحداث التغيير، لاسيما بعدما كان محور إيران في المنطقة يتحدث عبر إعلامه عن “وهن” القوة الإسرائيلية، وعن الوقت الذي سيأتي بزوال هذا الكيان. لكنّ ما حدث قد غيّر في المعادلات ونقل المعركة إلى الضفة الثانية من الحرب. لقد أسقطت إسرائيل اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916، حيث بدأت ترسم بالنار حدودا جديدة لا تشبه تلك التي وضعتها فرنسا وبريطانيا زمن الانتداب.
ومع سقوط النظام السوري، سقطت اتفاقية “فكّ الاشتباك” عام 1974 بين سوريا وإسرائيل، حيث غيّرت تل أبيب من بنك أهدافها، وحوّلت الجنوب السوري إلى منطقة عازلة، إضافة إلى تأييدها قيام كانتونات كردية ودرزية لتسهيل “ممر داوود” الذي يهدف إلى قطع الطريق عن مدّ النفوذين الإيراني والتركي.
استمرّ نتنياهو بضرب الاتفاقيات الدولية “عرض الحائط”، فها هو اليوم ينقض بنود القرار الدولي رقم 1701، مع الجانب اللبناني، حيث يستمر في العدوان وتنفيذ الاغتيالات تحت ذريعة منع الحزب من ترميم نفوذه. هذا ما أكده نتنياهو خلال حديث له، عن حزب الله، بعد سلسلة من الغارات التي نفذتها طائراته على منطقة النبطية صباح الأحد 31 أغسطس، من “أن جيشه سيستمر بضرب الحزب كلما حاول رفع صوته”.
لا مؤشرات على سقوط حكومة نتنياهو رغم الأزمات الداخلية المتلاحقة والتقارير التي تتحدث عن كلفة حرب فاقت الـ60 مليار دولار، وعن ارتفاع في أعداد العاطلين عن العمل بسبب خسائر الشركات. فالخسائر ليست على الصعيد الاقتصادي فحسب، فما تحدثت الوثيقة السرّية الداخلية التي بثتها قناة 12 العبرية الأحد 31 أغسطس، تؤكد الفشل العملياتي العسكري، وهذا ما أقرّ به الجيش الإسرائيلي عن فشل عملية “عربات جدعون”. أمام هذا الكم من الفشل الإسرائيلي لماذا لمْ تسقط حكومة نتنياهو إذاً؟
بحسب المخطط الإسرائيلي لا تراجع عن تهجير سكان غزة، ولا تلكؤ عن ضم الضفة إلى إسرائيل، كل هذا يسير حسب التخطيط الأميركي والتنفيذ والأداء الإسرائيليين
“لا انهيار” لحكومة اليمين المتطرفة الإسرائيلية في المدى المنظور، رغم تلطخها بسفك الدماء وتهجير الناس وتجويعهم. فهي جزء من تمدد يميني متطرف بدأ ينتشر في أوروبا التي شهدت الكثير من عواصمها صعود اليمين إلى برلماناتها، ومن الأحزاب المتطرفة ممن شكلت الحكومات. فكما في أوروبا كذلك في الولايات المتحدة التي شهدت وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ذو الفكر المتطرف والسياسات العبثية التي يرى أنها تصب في مصلحة بلاده، فهو من كتب على منصته “تروث سوشيال” عن أن “فرضا للرسوم الجمركية أدخل إلى البلد أكثر من تريليون دولار”.
لا تقف الأمور عند الموجات التطرفية التي تجتاح المجتمعات الغربية، فهناك جانب آخر يتمسك به نتنياهو ويرتبط بيومه الثاني لما بعد الحرب على القطاع بما ينسجم مع الرؤية الأميركية للمنطقة. فإسرائيل كما الولايات المتحدة تعتمد سياسة إقصائية لأذرع طهران في المنطقة، ولتحجيم دورها، بعدما اقترح الرئيس الإيراني مسعود بزكشيان الأحد 31 أغسطس تعزيز مبادرة “الحسابات والتسويات الخاصة لمنظمة شنغهاي للتعاون” كآلية عملية لتعزيز التعاون المالي للحد من آثار العقوبات غير القانونية على التفاعلات الاقتصادية بين الأعضاء.
أوضح بزشكيان أن الدور الذي تلعبه طهران في إعادة تعزيز الحضور في آسيا والشرق الأوسط تحديدا هو حاجة للدول المجتمعة في قمة شنغهاي الاقتصادية. فدعوته هذه لا ترتبط فقط بكسر العقوبات الأميركية، بل بمنع تطبيق “سناب بات” من الترويكا الأوروبية كي تبقى صلة الوصل لحلفائها في الشرق الأوسط.
إن جهود بزشكيان لا تنفصل عن تلك الزيارة التي قام أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي لاريجاني إلى لبنان والعراق بهدف إعادة ترتيب محور المقاومة بعد الضغوط العالية من قبل الإدارة الأميركية لسحب السلاح. فالإيراني لم يعلن بعد استسلامه، فهو يستخدم كافة الوسائل للاستعداد للحرب الحتمية القادمة مع إسرائيل، إذ تؤكد كل المؤشرات على حصولها، وإن عامل الوقت سيكون حاسما في المعركة. فإطالة الوقت يصب في صالح طهران التي تعزز ميزانية الحرب والتسلح خصوصا مع الاتفاقيات في آسيا الوسطى أو مع باكستان، أو في جنوب القوقاز مع أرمينيا.
أما إسرائيل فلا تملك رفاهية الوقت، فهي تحتاج إلى تنفيذ عملية عسكرية مفاجئة وقاضية في المدى المنظور، لتستطيع رسم معالم الانتصار لديها. وهذا الأمر يحتاج طبعًا إلى موافقة أميركية، ويجب أن يندرج ضمن الرؤية الإستراتيجية للإدارة الأميركية لمنطقة الشرق الأوسط التي على ما يبدو بدأت تشهد تعثرات في شأن الممر الاقتصادي الهندي، بعد التقارب الهندي – الصيني الذي صبّ في خانة إزالة العقبات أمام التوصل إلى حلّ في ما يتعلق بالقضايا الحدودية بين البلدين. وتوقف الكثير من المتابعين حول رفض رئيس وزراء الهندي، نيراما مودي، تلبية الدعوة لزيارة البيت الأبيض في دلالة على الغضب الهندي الكبير في ما يتعلق برفع واشنطن للرسوم الجمركية على السلع الهندية التي دخلت حيّز التنفيذ في نهاية شهر أغسطس الماضي.
تمتلك إسرائيل رؤية لليوم الثاني لحربها في الشرق الأوسط، وهي تلتقي في الكثير من النقاط مع الرؤية الأميركية، هذا ما يعزز صمود نتنياهو في وجه الاحتجاجات الداخلية، ويعطيه مظلة لعدم إسقاط حكومته قبل موعد الانتخابات في العام 2026. كذلك الأمر تمتد المظلة إلى الحماية الدولية، إذ رغم المقاطعة الدولية لها، والأوروبية على وجه الخصوص، إلا أنّ ذلك لم يدفع بها للسير في خطوط رئيس أركان جيشها، إيال زامير، خلال الاجتماع الأمني المصغر، للتوصل إلى اتفاق مع حماس.
يجد نتنياهو أنها فرصته نحو تحقيق الأهداف، بحسب ما ذكرت صحيفة “يديعوت أحرونوت”، على لسانه على اعتبار أن إسرائيل تمتلك اليوم مهلة دبلوماسية “غير محدودة” من الأميركيين، وأن الانسحاب من بعض الأراضي التي احتلها الجيش الإسرائيلي في عملية “عربات جدعون” سيكلّف ثمنا باهظا، لهذا وبحسب المخطط الإسرائيلي لا تراجع عن تهجير سكان غزة، ولا تلكؤ عن ضم الضفة إلى إسرائيل، كل هذا يسير حسب التخطيط الأميركي والتنفيذ والأداء الإسرائيليين، لهذا لم يحن الوقت لإسقاط نتنياهو، فالرجل مطلوب منه الكثير في المرحلة القادمة.