السعودية وباكستان.. تحالف استراتيجي في زمن التحولات
كتب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان مؤخرا على منصة إكس “السعودية وباكستان في صف واحد ضد المعتدي… دائمًا وأبدًا.”
عبارة مختصرة لكنها عميقة الدلالة، تعكس متانة العلاقة بين بلدين لطالما جمعتهما المصالح أكثر من العواطف، والتاريخ أكثر من الظرف السياسي. إلا أن كلمة “دائمًا” التي استخدمها الأمير خالد تفتح الباب أمام تساؤلات عن مدى واقعية هذا “الدوام” في زمن تتبدل فيه التحالفات كما تتبدل الخرائط.
فالعلاقة بين الرياض وإسلام آباد ليست وليدة اللحظة. فمنذ عقود، تقوم على تبادل المصالح: المملكة التي تحتاج إلى مظلة نووية تقيها تقلبات المنطقة، تجد في باكستان شريكا يملك المعرفة والخبرة، فيما ترى باكستان في السعودية مصدرا للاستقرار المالي والاستثمارات التي تنعش اقتصادها المتعثر.
في أكتوبر 2024، ظهر وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح إلى جانب رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، ورئيس أركان الجيش الباكستاني عاصم منير، ليعلن عن ضخ أكثر من 2.2 مليار دولار في الاقتصاد الباكستاني، من الطاقة إلى الزراعة. كان ذلك مشهدًا يؤكد أن التحالف بين البلدين ليس شعارًا، بل رافعة وجودية لكل منهما.
لكنّ الثابت الوحيد في السياسة هو التغيّر. فالتقلبات الجيوسياسية في المنطقة وآسيا تجعل أيّ حديث عن تحالف “أبدي” ضربا من التفاؤل المفرط، إذ لم تعد التحالفات مرهونة فقط بالمصالح المشتركة، بل أيضا بتبدّل موازين القوى الدولية. وفي غياب المظلة الأمنية الأميركية التقليدية، خاصة بعد الاعتداءات الإسرائيلية على الدوحة بغطاء أو رضى أميركي، تبدو المنطقة أمام مرحلة جديدة من إعادة رسم التحالفات.
السعودية، التي شهدت علاقتها بواشنطن مدّا وجزرا منذ عهد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، أدركت أن “اتفاقية كوينسي” لم تعد قادرة على حماية مصالحها كما في السابق. لذا، فتحت أبوابها شرقا نحو الصين وروسيا وحتى طهران. ولعلّ الدور الصيني في إعادة التقارب السعودي – الإيراني شكّل لحظة مفصلية أسقطت واحدة من أهم أوراق الضغط الأميركية في المنطقة. لقد نجحت بكين في جمع خصمين إقليميين تحت عنوان “التعاون بدل التصادم”، وهو ما قلب قواعد اللعبة القديمة التي كانت واشنطن تحتكرها.
◄ التناقض بين الرؤية الأميركية والسعودية في القضايا الإقليمية الحساسة يعزز قناعة الرياض بأن المظلة الأميركية لم تعد كافية، وأن أمنها القومي يجب أن يُبنى على شراكات متوازنة
وفي هذا السياق، بدا الموقف السعودي خلال الحرب الإسرائيلية – الإيرانية في يونيو الماضي صادما للبعض، إذ تبنّت الرياض موقفا داعما لإيران ضد إسرائيل، في لحظة كان الجميع يتوقع فيها العكس. كذلك، برز الموقف الباكستاني المعلن عن الاستعداد للدفاع عن المنشآت النووية الإيرانية ضد أيّ اعتداء إسرائيلي، وهو موقف لا يمكن أن يخرج عن دائرة التنسيق مع الرياض. فالسعودية اليوم لا تكتفي بالاستثمار المالي في باكستان، بل تستثمر في موقعها الجيوسياسي كقوة نووية محتملة ودرعٍ إستراتيجي في مواجهة التحديات المقبلة.
من جهة أخرى، تستمر واشنطن في دعمها المطلق لإسرائيل رغم الاعتراض الخليجي والعربي، وقد بدا ذلك واضحا في استخدام حق النقض ضد مشروع قرار أممي لوقف الحرب في غزة.
هذا التناقض بين الرؤية الأميركية والسعودية في القضايا الإقليمية الحساسة يعزز قناعة الرياض بأن المظلة الأميركية لم تعد كافية، وأن أمنها القومي يجب أن يُبنى على شراكات متوازنة لا على وصايات.
ولعلّ الصورة التي جمعت ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان برئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف في 17 سبتمبر الماضي لم تكن مجرد لقاء بروتوكولي، بل رسالة سياسية بأبعاد متعددة.
فهي أولًا موجّهة إلى تل أبيب، التي يسعى رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو إلى جرّ المنطقة إلى فوضى دائمة. وثانيًا إلى واشنطن، بأن السعودية لن تكتفي بدور “الزبون الأمني”، بل ستلعب دور الشريك المقرّر. وثالثًا إلى طهران، بأنّ الشراكة مع المملكة هي الضمانة الحقيقية لاستقرار الإقليم، لا التحالفات المؤقتة ولا الخطابات الثورية.
في العمق، تدرك السعودية أن عصر الاعتماد على قوة واحدة قد انتهى، وأن امتلاك توازن الردع – النووي أو الإستراتيجي – أصبح ضرورة وجودية. فهي تتجه لبناء قدراتها الذاتية، بما في ذلك مشروعها النووي الذي قد يبدأ سلميًا لكنه يحمل في جوهره فكرة “الردع”.
وبتوقيعها اتفاقًا دفاعيًا مع باكستان، الدولة النووية المسلمة الوحيدة، فإنها تضع الأسس لتحالف جديد يعيد تعريف القوة في المنطقة الإسلامية.
في النهاية، يمكن القول إن التحالف السعودي – الباكستاني لم يعد مجرد علاقة دعم مالي أو تعاون عسكري، بل هو رهان إستراتيجي على مستقبل ما بعد “الهيمنة الأميركية”. إنه تحالف الضرورة لا المجاملة، يطمح إلى نقل العالم الإسلامي من موقع التبعية إلى موقع الفعل، ومن المظلة المفروضة إلى المظلة المصنوعة.
ربما لا يمكن ضمان “ديمومة” هذا التحالف كما قال الأمير خالد، لكنّ المؤكد أنه يشكّل اليوم واحدًا من أهم معالم التحوّل في النظام الإقليمي الجديد، حيث تتبدل الأدوار، وتولد أقطاب جديدة من رحم التحالفات الذكية والمصالح المتبادلة.