النزوح الفلسطيني: ذاكرة متوارثة وحاضر مستمر
كتب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي على منصة أكس “يا سكان غزة، انتقلوا جنوبًا عبر شارع صلاح الدين حفاظًا على سلامتكم.” جملة تبدو للوهلة الأولى تحذيرًا إنسانيًا، لكنها في الواقع سلاح نفسي يلوّح به الرجل في كل مرة يحدد فيها مهلة زمنية للنزوح.
مهلة الـ48 ساعة التي منحها هذه المرة ليست سوى جزء من مشهدية مرعبة: آلاف الفلسطينيين يتركون بيوتهم على عجل، ويصطفون في طوابير من القهر في انتظار العبور نحو المجهول.
هذا الخطاب يفضح ما هو أبعد من “التحذير”. إنه يكرس حقيقة أن إسرائيل تتعمد صناعة الألم، وتدفع الناس دفعًا نحو سؤال بات يختصر المأساة كلها: وين نروح؟
شهادة الفلسطيني أحمد المعصوابي، الذي نزح مع عائلته مرتين قبل أن يعود إلى غرب غزة لغياب الملاذ، تختزل معاناة مئات الآلاف. لا مكان آمن، لا أفق واضح، فقط رحلة متواصلة بين جنوب وشمال، تدار بأوامر عسكرية وتغريدات دعائية.
منذ النكبة عام 1948 ارتبطت صورة الفلسطيني بحركة نزوح لا تنتهي. اليوم، يعاد إنتاج هذه الصورة بفظاعة أكبر: تهجير قسري، وصورة نمطية يُراد تكريسها، بأن الغزاوي مجبر على ترك أرضه ليُعاد رسم خارطة القطاع وفق مشروع سياسي واقتصادي إسرائيلي – أميركي.
يبقى السؤال الذي يطارد الذاكرة الفلسطينية منذ 1948: هل سيبقى الغزاويون أسرى العبارة المريرة “وين نروح؟” أم أن صمودهم سيتحول مرة أخرى إلى معضلة تقوّض كل مشاريع التقسيم والتهجير؟
هنا يصبح السؤال المركزي: هل الفلسطيني مقدر له أن يظل أسير عبارة “وين نروح؟” أم أن صموده سيفرض معادلة مضادة تحبط طموحات بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب؟
منذ السابع من أكتوبر 2023 وجدت حكومة نتنياهو المتطرفة في عملية حماس ذريعة لإطلاق مشروعها القديم – الجديد: تغيير وجه غزة وإعادة صياغة خارطتها. ترامب نفسه لم يُخفِ حلمه بتهجير الغزاويين إلى دول الجوار، تمهيدًا لتحويل القطاع إلى منطقة سياحية مرتبطة بمشاريع الممرات الاقتصادية التي تتنافس فيها واشنطن مع الصين والهند. إنها رؤية تتجاوز حدود غزة، لتطال لبنان أيضًا، حيث سبق أن طُرح مشروع “ترامب الاقتصادي” للقرى الحدودية.
ما تكشفه الصحافة الأميركية، مثل نيويورك تايمز، عن “الضوء الأخضر” الذي منحه ترامب لنتنياهو لغزو غزة، يعزز هذه الفرضية: الحرب ليست ردًّا على حماس بقدر ما هي فرصة لرسم شرق أوسط جديد. واشنطن تنظر إلى غزة كحجر أساس لإعادة ترتيب حضورها في المنطقة، فيما تنسجم الرؤية الإسرائيلية مع هذا المشروع: ضرب كل خصومها، من إيران إلى تركيا وقطر ومصر، وتصفية “المعضلة الفلسطينية” عبر التهجير.
حتى في لحظات التضامن الرمزي، كما فعل البابا ليون الرابع عشر حين عبّر عن تعاطفه مع سكان غزة، تبقى الحقيقة عارية: الفلسطيني يُدفع مرة أخرى نحو التشريد القسري، فيما يتعامل الإسرائيلي مع القطاع كـ”ثروة عقارية هائلة”، وفق تعبير وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي تحدث صراحة عن “تقسيم غزة” بعد الحرب. مرحلة الهدم أنجزت، يقول الرجل، وما تبقى سوى البناء.
بهذا المعنى لم تعد الحرب مسألة “تدمير بنية تحتية لحماس” أو “تحرير أسرى”، كما يروج نتنياهو. المخطط أبعد من ذلك: تقاسم غزة، وضع اليد على مقدراتها، وتحويلها إلى مشروع استثماري. إنها نسخة معاصرة من النكبة، تُنفذ بتغطية أميركية، وتبريرات إسرائيلية، وسط صمت دولي لم يكسره سوى بعض المواقف الرمزية أو الاقتصادية، كاقتراح المفوضية الأوروبية تعليق الامتيازات التجارية مع تل أبيب.
ويبقى السؤال الذي يطارد الذاكرة الفلسطينية منذ 1948: هل سيبقى الغزاويون أسرى العبارة المريرة “وين نروح؟” أم أن صمودهم سيتحول مرة أخرى إلى معضلة تقوّض كل مشاريع التقسيم والتهجير؟