مهندس جزائري يصل الغرب بالشرق في تصاميم تنشد السلام
هناك مبدعون عرب كثيرون لهم شهرة واسعة خارج بلدانهم، بينما لا يحظون بنفس الاهتمام في أوطانهم، ورغم ذلك وما فيه من مفارقات، فإن هؤلاء يكرسون جهودهم لمنح الوطن الأول شيئا من تجاربهم، بينما يمكن اعتبارهم همزة وصل ضرورية بين المحلي والعالمي، ومن هؤلاء المهندس ومصمم الحدائق الجزائري كمال الوافي.
توجد طاقات عربية كبيرة مهاجرة، أثبتت وجودها في الغرب في تخصصات كثيرة، وغدت وسيطا ثقافيا حقيقيا بين الغرب والشرق، حاز بعضها جوائز عالمية، ولكنها لسوء الحظ معروفة في الغرب أكثر منها في بلدانها، لأن الغرب وظّف أعمالها ومنجزاتها، ومنحها وسائل الفعل اللازمة، بينما لا يعرفها إلا ذوو الاختصاصات في بلدانهم الأصلية، مثلما هو حال المهندس ومصمم الحدائق في العالم كمال الوافي.
صدر حول الوافي كتاب لمؤلفه ستفان لوبيرت بعنوان: Jardins entre Alger et Berlin ; un architecte paysagiste Algero- allemand et dans le monde، “حدائق بين الجزائر وبرلين؛ مهندس مناظر طبيعية جزائري ألماني وعالمي” في الجزائر عن منشورات alternatives urbaines “البدائل الحضرية”.
مسيرة بين الأماكن
يقع الكتاب في 176 صفحة، وهو يجمع ما بين السيرة الذاتية والجانب المهني، يحتوي على مجسمات بعض مشاريع المدن والشوارع والساحات العمومية، منها ما أنجزه كمال الوافي، المهندس الجزائري الذي عمل على استثمار العيش المشترك في المجتمع وفي مهنته، وهو الذي التحق ببرلين نهاية سبعينات القرن الماضي وفي زاده بعض الكلمات الألمانية، واستقر بهذه المدينة التي فتحت له أبواب الشهرة على مصراعيها.
عمل كمال الوافي عدة سنوات بصفته مهندسا ومصمما للمناظر الطبيعية في مكتبه، وتحصل على جائزة مسابقة “معرض هانوفر” عام 1996، ثم غدا “نجما صاعدا في الساحة الفنية الغربية، لأنه صمّم المعرض العالمي في ألمانيا، مع فريق متكون من عدد قليل من الشباب من بلدان مختلفة”، تعكس أعماله المختلفة تمازجا بين الأنا والآخر، وهبها روحا وهوية استثنائيتين.
ولد كمال الوافي في شرق فرنسا عام 1952 من أب مهاجر قرر العودة إلى مدينته باتنة في الشرق الجزائري، عرف بأن ثورة التحرير الجزائرية على الأبواب، وأن الواجب يملي عليه المساهمة فيها، دخل السجن عدة مرات، وربى أولاده على التسامح والانفتاح على الآخر، وعلى بناء أسرة متلاحمة، كما يشهد على ذلك كمال نفسه قائلا “لطالما كان التسامح في عائلتنا عاليا جدا، ما ميز والدينا اللذين ربيانا عليه كمنبع أساسي، تسلحنا به في الجزائر وفرنسا وكندا وبرلين”، حيث يوجد إخوانه ويعملون في وظائف متميزة.
يؤكد مؤلف الكتاب أن كمال لم يكن مجتهدا في دراسته، وفضل عالم الشغل كمساعد سائق في شاحنة، وهو لا يزال طفلا، ولكنه كان مولعا ومنذ صغره بالحدائق رغم قلتها، كان يتابع النباتات التي تزرعها والدته في قطعة الأرض الصغيرة التابعة لسكنهم، ثم بدأ يطلع على أعمال بعض الفنانين والرسامين الجزائريين، أمثال عمر راسم.
التحق بمدرسة مسائية بباتنة تعطي دروسا في التعلم على رسم الخرائط، “بينما كان يعمل خلال النهار في إدارة الزراعة الحكومية، حيث كان يرسم رسومات بسيطة ويكسب عيشه”، مواصلا اهتمامه بالهندسة ما أهله للالتحاق بـ”الجامعة التقنية ببرلين” في إطار التعاون التقني، ثم استقر في برلين بعد رحلات في شرق المعمورة وغربها، من ضمنها باريس التي تعرف فيها على مدرسة هندسة المناظر الطبيعية، ثم سافر إلى برلين ليواصل دراسته ويحقق حلمه كمهندس، ويصبح واحدا من أهم المهندسين في المناظر الطبيعية، بفضل العلاقات التي نسجها مع أساتذة وأصدقاء من مختلف بلدان العالم.
ساعده هذا الجو على تحقيق حلمه، تقدم إلى مسابقة جمعت العشرات من المشاركين “وقد فاز كمال الوافي فيها، من بين نحو خمسين مشاركا آخرين تم اختيارهم، معظمهم من مكاتب معروفة، وأحيانا معروفة خارج حدود البلاد. بما في ذلك المكاتب ذات الصدى الدولي، فقد فتح عالم التخطيط الواسع عينيه على مبدع آخر، كما فعل الصحافيون المتخصصون”.
كان قرار المشرفين على هذه المسابقة بفوز الجزائري الذي لم يتابع دراسته مثل الآخرين، وتنقل في مهن مختلفة، قبل أن يضع صوب عينيه الهندسة، اجتهد في دراستها وأصبح أحد القامات العالمية في اختصاصه، يقول عن نجاحه في تلك المسابقة التي أهلته إلى الفوز بأهم مشروع في برلين “لقد كان القرار بالتمسك بشخص مجهول من أصول جزائرية، وتكليفه بهذا المشروع مشجعا على مستوى الإعلام، ومحفزا على مواصلة العمل”، ولا يشك في أن نتائج هذه المسابقة التي أثارت نقاشا كبيرا بين المنظمين والمروجين كانت بداية لمسيرة حافلة.
فلسفة فنية
كانت هذه المسابقة انطلاقة مسيرة نجاح متتابعة، حيث حقق كمال الوافي العديد من المشاريع التي تتراوح مساحتها ما بين خمسمئة متر وثمانمئة ألف متر مربع، نذكر منها على سبيل المثال، ساحة الأوبرا بمدينة هانوفر، وساحة الملك كاسيل، ونصب مدينة ساكسنهاوزن بريك كيل التذكاري، إضافة إلى ساحة المقاومة بليكسمبورغ، والحديقة الإسلامية الشرقية في برلين – ما رزان، علاوة على تحقيقه عدة مشاريع عالمية، منها المسجد الكبير بأبوظبي.
كما أنجز حديقة في بسكرة تابعة لصاحب مشروع شخصي واع بمسيرة الرجل، وبالفنيات التي أضافها إلى تصميمه للحدائق، كما أنجر مشاريع أخرى في الأرجنتين وإسبانيا، وله مشاريع عالمية وعربية أخرى، توقف الكثير منها بداية شهر أكتوبر 2023 نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزة.
المهندس يواصل عمله دون هوادة، بالكثير من التواضع والثقة في النفس مقدما مشاريع لافتة حازت جوائز عالمية
وخلال كل هذه المشاريع وظف كمال الفن والثقافة العربية الإسلامية، ما أهله لحصد مجموعة جوائز عالمية، مواصلا عمله دون هوادة، بالكثير من التواضع والثقة في النفس، أمله الكبير نقل خبرته إلى بلاده، وتحقيق مشاريع فيها، وقد تقدّم بها إلى بعض المسؤولين في الجزائر.
“باعتباره مواطنا عالميا متقاعدا، فإنه يكرس نفسه الآن لنقل رؤيته لفنه؛ يعرض أعماله في المعارض، ويعطي محاضرات تطوعا، ويقوم أيضا بتنظيم ورش عمل لتصميم المناظر الطبيعية في ألمانيا وأوروبا وشمال أفريقيا”. تتلخص فلسفة كمال في إتقانه لعمله، وفي تثمين موروثه الثقافي الممتد عبر قرون في تجسيد ثقافة السلام، علاوة على محاكاته مصائر البشر، والتساؤلات الوجودية في كينونة الإنسان تجاه الطبيعة، وتساؤلاته المتواصلة حول العالم والموت.
ألف كمال الوافي العديد من الكتب بالألمانية وترجم بعضها إلى اللغة الفرنسية والعربية، كاشفا عن شخصية يقودها المرح المتواصل، ولكنها تجسّد نظرة عميقة، وهو في ذلك، مثل المتصوف الحيوي الذي تحركه مفاتيح الإبداع يجسد عبرها القيم في واقع يومي يمور بالكثير من الإبداعات والأسرار والمشاريع.