مسلسل "مملكة الحرير" طبعة مصرية جديدة لفانتازيا تاريخية
جاء مسلسل “مملكة الحرير” ليروي في عشر حلقات درامية فانتازية حكاية تدور في مملكة رمزية تُجسّد صراعات داخل النفس البشرية، عبر قصة غامضة يسيطر فيها الشر، لتعيد التذكير بالفراغ الكبير الذي تعيشه الدراما العربية عموما، حيث ابتعدت لسنوات عن تصوير هذا النوع من الأعمال الفنية.
القاهرة - تعطي الفانتازيا التاريخية فرصة واسعة لصناعها لتحميل العمل الدرامي رموزا تتجاوز حيز التاريخ الوهمي لقصص درامية تخيلية، وتحث الرموز بعض المشاهدين على إعمال عقلهم للبحث عن المعاني الحقيقية المختبئة خلفها.
ويحفل الشرق على مدى تاريخه بكتب وحكايات وأساطير تدور كلها في فضاء الفانتازيا التاريخية، نهل منها أدباء ومبدعون في مجالات الرواية والشعر والمسرح، وسلموها إلى صناع سينما ودراما وتحويلها إلى أعمال حققت نجاحات.
قدم المصري بيتر ميمي قصة تخيلية تاريخية جديدة، كتبها وأخرجها في 10 حلقات تحت عنوان “مملكة الحرير”، بطولة كريم محمود عبدالعزيز وأسماء أبواليزيد وأحمد غزي وعمرو عبدالجليل، تمحورت حول ارتباط جميع آثام العنف وسفك الدماء بجريمة القتل الأولى في فجر البشرية، وهو ما يستهل به العمل الدرامي قبل نزول تتر البداية على لسان أحد الرواة، ويشير إلى قصة ابني آدم قابيل وهابيل، وأننا كبشر أبناء القاتل قابيل.
ثم قفز العمل إلى تاريخ قديم غير معلوم، تحدث فيه جريمة يقتل فيها الأمير الذهبي، وجسد دوره الفنان عمرو عبدالجليل، أخاه الملك نورالدين، ويخطط لقتل ابنيه وريثي عرش مملكة الحرير، وهي مملكة وهمية، وهما الأميران شمس الدين وجلال الدين، ويلعب دورهما كريم محمود عبدالعزيز وأحمد غزي، لكن أحد الخدم، ويدعى رضوان وأدى دوره الفنان محمود البزاوي يهرّبهما، ويترك خلفه الأميرة جليلة ولعبت دورها الفنانة أسماء أبواليزيد بوصفها فتاة لن يهتم عمها بقتلها.
تفرقت بهم السبل
أثناء هروب الحارس رضوان بولدي الملك المغدور، يهاجمهم قُطّاع طرق، فيقتلون رضوان وزوجته، ويأخذون الطفلين، فينشأ شمس الدين وسط جنود العبيد ويصبح محاربا، بينما ينشأ جلال الدين على يد أحد قُطّاع الطرق، وتكبر جليلة في القصر الملكي، وتزف إلى الأمير سليمان ابن الملك الذهبي وأدى دوره الممثل يوسف عمر، وتشتعل كراهيتها للملك وابنه وأخويها اللذين هربا من القصر وتركاها.
يكّون جلال الدين جيشا من قطاع الطرق لاسترداد ملك أبيه، في وقت تدفع فيه الصدفة أخاه شمس الدين لإنقاذ حياة الملك الذهبي ليعينه قائدا للحرس، بينما تسعى الشقيقة الثالثة للعرش بوصفها زوجة ولي العهد إلى التخطيط لإنجاب وريث يصبح وليا للعهد، ويدور صراع بين الأشقاء الثلاثة للاستيلاء على عرش مملكة الحرير.
ينتهي الصراع بأن يصبح شمس الدين ملكا على مملكة الحرير، ويقف في المشهد الأخير وسط جثث القتلى قائلا “أصبحت ملكا على أموات”، بينما يتردّد صوت الراوي الذي يؤديه الفنان حسن العدل، بأن داخل كل إنسان جزءا من الشر الذي ورثه من جريمة قتل قابيل لهابيل، لكن – حسب قوله – لا يوجد إنسان شرير تماما. وبهذه الجملة يسدل الستار على أحداث المسلسل وسط تكهنات بأن أجزاء أخرى قد تتبعه.
حملت نهاية العمل إطلالة لطفلة يتيمة رافقت شمس الدين في الحلقتين الأخيرتين، وترمز للمستقبل، وسألته “هل ستقتلني أنا أيضا”، في مشهد فلسفي يفتك بالعاطفة. فهل فاز شمس الدين حقا، أم فقد كل شيء في سبيل ما لا يستحق؟
الخيال الغافي
جاءت فانتازيا مسلسل “مملكة الحرير” لتوقظ الخيال الدرامي الغافي، إذ تعاني الدراما المصرية بشكل عام من شح في هذا المجال، وفتح العمل بوابة إلى عوالم غير محددة بزمان أو مكان، حيث يلتقي الدم بالعرش، والخيانة بالقدر، والإنسان بشروره الخالدة.
اختار المخرج بيتر ميمي تجاوز الإطار التقليدي للدراما، وبنى عالما مستقلا يشبه الأسطورة، ووفرت الديكورات والأزياء إيحاء بأنها خارج الزمن، وتدرجت الألوان في غالبية مشاهد المسلسل، وتراوحت بين درجات اللون الذهبي والدموي القاني، وبدت الكادرات مشبعة بالرمزية، مثل العرش المحاط بالشوك، والممرات الطويلة التي لا نهاية لها واستخدمت الظلال لأداء دور نفسي في رسم اضطراب الشخصيات.
المخرج بيتر ميمي اختار تجاوز الإطار التقليدي للدراما، وبنى عالما مستقلا يشبه الأسطورة، ووفرت الديكورات والأزياء إيحاء بأنها خارج الزمن
واتجهت أذهان بعض المتابعين لفانتازيا مملكة الحرير إلى الملحمة الأميركية الشهيرة “لعبة العروش” Game of Thrones وتم تصويرها في سبع دول، وأنتجتها شبكة HBO بميزانيات ضخمة، استحوذت على أعلى نسب مشاهدة في العالم طيلة عرضها عبر ثمانية مواسم خلال الأعوام 2011 – 2019 وحصدت جوائز عالمية.
تدور أحداث سلسلة “لعبة العروش”، التي ضمت طاقما كبيرا من الممثلين، في قارة ويستروس الخيالية، وتتبعت عددا من الخيوط الرئيسية التي نسج عليها البناء الدرامي للملحمة، وتناول الخيط الأول العرش الحديدي لممالك ويستروس السبع، من خلال شبكة من الصراعات السياسية بين العائلات النبيلة التي تتنافس على العرش أو تقاتل من أجل الاستقلال عن أي شخص يجلس عليه، وركز الخيط الثاني على آخر سليل من السلالة الحاكمة المخلوعة للمملكة، وتم نفيه إلى إيسوس ويخطط للعودة واستعادة العرش. وتتبع الخيط الثالث ما سمي بحرس الليل، وهو نظام عسكري يدافع عن المملكة ضد التهديدات القادمة من وراء الحدود الشمالية للممالك السبع.
خيال مسرحي
شهدت حقبة الستينات والسبعينات من القرن الماضي وهجا إبداعيا وتناولا جادا لسرديات الخيال التاريخي من قبل عدد من أهم كتاب المسرح العربي، وبزغ نجم الكاتب السوري سعدالله ونوس في مسرحه الرمزي المحمل بالإيحاءات السياسية الثقيلة، كما
في مسرحية “الفيل يا ملك الزمان” وكتبها عام 1969 وتتحدث عن أفيال يسخرها الحاكم لدهس معارضيه من الشعب، وعرضتها، ولا تزال، العديد من المسارح العربية، ومسرحية “الملك هو الملك” عام 1972 وتتناول قصة ملك ضجر بأبهة الحكم، وقرر أن يتنكر هو ووزيره بحثا عن ترفيه بين العامة، فيلتقي بتاجر أفلس
يمضي وقته في الخمر والهذيان ويحلم بأنه الملك، فيقرر الملك أن يلبسه ثيابه ويجعله ملكا ليوم حتى يضحك من هذا المشهد الغريب، ومجرد جلوسه على العرش تعامل الجميع مع التاجر بوصفه هو الملك، بما في ذلك الملكة وحراس القصر، ويكتشف التاجر مؤامرة لقلب الحكم في ذلك اليوم ويفشلها، ما يرسخه أكثر فوق كرسيه، ويجد الملك الحقيقي نفسه ضحية لعبة ترفيهية.
◙ فانتازيا "مملكة الحرير" جاءت لتوقظ الخيال الدرامي الغافي، إذ تعاني الدراما المصرية من شح في هذا المجال
والمسرحية عرضتها فرق مسرحية عدة، واستمر عرضها في القاهرة بنهاية ثمانينات القرن الماضي فترة طويلة، بعد أن لاقت نجاحا جماهيريا، وأخرجها مراد منير ولعب بطولتها صلاح السعدني، ومحمد منير الذي تغنى بأشعار أحمد فؤاد نجم.
وتطرقت مسرحية “حفلة على الخازوق” للكاتب المصري محفوظ عبدالرحمن وعرضت منتصف سبعينات القرن الماضي بالقاهرة، إلى مشكلة اختيار الحاكم لمعاونيه وفسادهم وبطشهم بمعارضيهم.
دارت النماذج المسرحية الثلاثة في فراغات تاريخية وهمية، وطرحت قصصا رمزية تحايلت على الواقع العربي المأزوم سياسيا في فترة نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي ونجحت في إيصال رسالتها للجمهور عبر فك شيفرات رموزها.
ومن خلال اقتحامها عالم الفانتازيا السحري حاول مسلسل "مملكة الحرير" تجديد دماء الدراما المصرية، انطلاقا من إنتاج ضخم، فهي ليست فقط عملا دراميا، بل أيضا بيان نوايا بأن الفن لا يقبع تحت وطأة الواقع المعيش، وقادر على التطرق إلى عوالم الأساطير وصناعتها، ومفاجأة الجماهير بالتحليق في فضاءات تاريخية مبهرة.
