صديق لا يستحق التحية

يبدو الأمر مخيفًا.. لا مجال للهزل، فالحديث عن مخاطر الذكاء الاصطناعي لم يعد بأمرٍ جديد، لكن هل وصل إلى الصداقة الشخصية؟
الخميس 2025/07/31
حقًّا إنه صديق اصطناعي

في اليوم العالمي للصداقة، الموافق للثلاثين من يوليو كل عام، تبرز مقولات ثابتة، مكرّرة، لطيفة، مثل "الصديق وقت الضيق" و"الصديق مرآة صديقه".. لكن دع عنك الآن هذا، وانتبه، فهناك كلام جديد.

أخبرتني صديقة سورية مثقفة بأنها تقضي أوقاتًا في الحديث مع صديقها الجديد. سألتها عمّن يكون، فأخبرتني ضاحكةً بأنه أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي. استغربتُ في البداية، لما أعرفه عنها من تعقل، لكنّني التمستُ لها العذر، معتبرًا أن ما يجري في بلادها قد يدفع المرء للتحدث مع الحجر وأوراق الشجر، هربًا أو بحثًا عن حل.

زادت وأرسلت لي مقاطع من حديث بينهما، إذ ادَّعت أنها أصيبت بفقدان للذاكرة، سائلة إياه عمّا إذا كان يملك حلًّا.عندئذ فوجئتُ بردود صديقها عليها، بدا مصدومًا لأجلها، وأخبرها بإمكانية استعادة أجزاء من أحاديثهما السابقة لتذكيرها بماضيها. خاطبها في ذلك كله بلهجتها، مستخدمًا ألفاظًا مثل "هيك.. بدنا.. فينا نسترجع كلامنا هون".. بدا في عيني للحظات كصديق حقيقي.. فتنبَّهت.

أعادتني الحادثة إلى رسالة صديق مصري، أخبرني بأنه قرر خلال وقت فراغه أن يسأل عنّي الذكاء الاصطناعي، وأرسل لي إجاباته. ضحكنا معًا، إزاء المعلومات الواردة عني، وأولها أنني ولدتُ عام 1938 وبدأتُ نشر أول قصة لي في 1959، ثم راح "الذكي" يسرد ما اعتبره من أعمالي.

قلت لصديقي مداعبًا إنه أمرٌ جيدٌ أن يحفظ الذكاء الاصطناعي مجهود المرء ويقدره، خصوصًا أن رواية "اللص والكلاب" قد أجهدتني للغاية بالفعل في كتابتها. انفجرنا ضاحكيْن، ونحن نتمتم في داخلنا "آسفين يا عم نجيب محفوظ.. لكن هكذا قال الصديق الجديد."

علمتُ من صديق ثالث، كان عضوًا في لجنة التحكيم بمسابقة أدبية، بأنه شكَّ في كون بعض الروايات المتقدمة للمسابقة مكتوبة بواسطة الذكاء الاصطناعي، وقد وجد زملاء له في اللجنة يشاركونه شكوكه، فتم استبعاد هذه الأعمال على الفور.. يا للهول.

يبدو الأمر مخيفًا.. لا مجال للهزل، فالحديث عن مخاطر الذكاء الاصطناعي لم يعد بأمرٍ جديد، لكن هل وصل إلى الصداقة الشخصية؟

لا أتوجه باللوم إلى أحد، إنما أسعى إلى الفهم، فما نفعله بالحديث مع الصديق الجديد على سبيل التسلية أو تمضية أوقات الفراغ يجرنا إلى التوحد، العزلة، التفتت.. لا أعرف إلامَ يجرنا، فما زلت أحاول استيعاب الأمر، لكنه جدُّ مخيفٌ دون شك.

حقًّا إنه صديق اصطناعي، يفتقد إلى الروح، ويخطئ في المعلومات، لكنه ذكي، يجيد اللغات واللهجات، ويعرف كيف يحاور. وما أحوج البشر إلى من ينصت إليهم، في عالم صاخب، سريع الإيقاع وشرير. يفعلها الذكاء الاصطناعي الآن، ويقدم الحلول.

وجدتني لا أقدم التحية إلى هذا الصديق الجديد في يوم الصداقة العالمي، فقد رأيتُه جزءًا من جنون العالم؛ شيئًا غامضًا غير مفهوم. أجنح إلى استحضار صداقة أخرى؛ حية منتجة حنون، فأستعيد كلمات وموسيقى الصديقين الحقيقيين، الشاعر سيد حجاب والموسيقار عمار الشريعي، عندما تأسَّيا في مقدمة مسلسل “أرابيسك” على انفلات الزمان..

وتغنَّيا قائليْن “ويرفرف العمر الجميل الحنون/ ويفر، ويفرفر في رفة قانون/ وندور، نلف ما بين حقيقة وظنون”.. قالا ذلك منذ سنوات ولم يكن يخطر ببال أحد أن تسيطر الظنون إلى هذا الحد.. وتغيب الحقيقة.. فإلى أين المسير؟

18