زيادة ونصف.. بعيداً عن السيادة
العراق يعيش اليوم مفارقة سياسية تكاد تختصر تاريخه الحديث: بلد غني بالنفط، لكنه فقير بالقرار. فمنذ عام 2003 والعراق يتأرجح بين نفوذ أميركي مباشر وآخر إيراني متغلغل، حتى بات مفهوم “السيادة” أقرب إلى شعار يرفع في البيانات أكثر مما هو واقع في الميدان.
تزامناً مع اقتراب الانتخابات العراقية المرتقبة، عاد اسم العراق ليتصدر عناوين الإعلام الأميركي مجدداً بعد إعلان واشنطن عن تعيين مبعوث جديد للرئيس الأميركي دونالد ترامب في بغداد، هو مارك سافيا، الدبلوماسي الأميركي من أصول عراقية مسيحية. اختيار سافايا لم يأتِ من فراغ، فهو يحمل رمزية مزدوجة: من جهة يمثل امتداداً للنفوذ الأميركي في لحظة دقيقة، ومن جهة أخرى يعكس محاولة واشنطن لتغليف تدخلها بمظهر “العودة إلى الجذور العراقية” عبر شخصية ذات خلفية محلية.
السؤال الأبرز الذي يفرض نفسه هنا: هل أن توقيت تعيين مبعوث ترامب الجديد يتقاطع صدفة مع موعد الانتخابات العراقية، أم أن وراء هذا التزامن دلالات سياسية أعمق؟
فمن غير المعتاد أن ترسل واشنطن مبعوثاً خاصاً إلى بغداد في مرحلة يُفترض أنها “محلية الطابع” انتخابياً. هذا التوقيت يشي بأن الولايات المتحدة لا تزال ترى في العراق ساحة مفتوحة لإعادة ترتيب أوراقها الإقليمية، خاصة بعد أن شهدت السنوات الأخيرة تمدداً إيرانياً واسعاً في ملفات الطاقة والأمن والسياسة.
السؤال الأبرز الذي يفرض نفسه: هل أن توقيت تعيين مبعوث ترامب الجديد يتقاطع صدفة مع موعد الانتخابات العراقية أم أن وراء هذا التزامن دلالات سياسية أعمق؟
ويبدو أن مشاركة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في قمة شرم الشيخ للسلام ولقاءه بترامب على هامش القمة فتحت الباب أمام تساؤلات أكثر حدة، خصوصاً بعد تصريح ترامب اللافت بأن “العراق بلد يملك نفطاً كثيراً”. عبارة بسيطة في ظاهرها، لكنها تختصر نظرة واشنطن التقليدية إلى العراق: بلد ثروات لا بلد سيادة.
في المقابل، لم يبدُ أن بغداد تمتلك خطة واضحة أو موقفاً دبلوماسياً متوازناً للتعامل مع هذه التطورات. فالخطاب الرسمي العراقي لا يزال أسير لغة التوازن الحذر بين واشنطن وطهران، فيما الواقع السياسي يشير إلى أن القرار العراقي يُصاغ في الغالب خارج حدوده. وهنا تبرز الإشكالية الكبرى: هل عاد العراق فعلياً إلى طائلة الوصاية غير المعلنة، وربما إلى شكل جديد من البند السابع لكن بصيغة ناعمة؟
إن ضعف مؤسسات الدولة العراقية وتشرذم المشهد الحزبي جعلا من أي خطوة أميركية أو إيرانية حدثاً وطنياً داخلياً. وكأن تعيين مبعوث أو تصريح دبلوماسي يكفي لإعادة رسم المشهد السياسي في بغداد. في هذا السياق، يصبح الإعلام المحلي انعكاساً لحالة فقدان التوازن، حيث تتحول أخبار كهذه إلى محور نقاش يومي يطغى على القضايا الوطنية الجوهرية مثل الاقتصاد، الخدمات، أو الإصلاح الإداري.
مارك سافيا، من جانبه، ليس مجرد مبعوث إداري، بل يمثل اختباراً جديداً لقدرة العراق على أن يكون طرفاً فاعلاً لا متلقياً في علاقاته مع القوى الكبرى. فبين النفوذ الإيراني المتغلغل، والمبادرات الأميركية المتجددة، يقف العراق اليوم أمام سؤال وجودي:
هل يمكنه أن يستعيد دوره كدولة ذات سيادة فعلية، أم أن “الزيادة والنصف” من الخارج ستظل تحكم قراره بعيداً عن السيادة؟