العراق بين حكم الملوك والعسكر والديمقراطية المعلّقة

العراق الذي بدأ ملكيًا ثم صار جمهوريًا ثم دخل تجربة الديمقراطية المعلّقة لا يزال يبحث عن جوهره المفقود: دولة فيدرالية عادلة تحكمها المؤسسات لا الأشخاص.
الجمعة 2025/10/10
العراق يبحث عن جوهره المفقود

منذ إعلان تأسيس المملكة العراقية عام 1921، خاض العراق رحلة طويلة ومعقّدة من التحولات السياسية والاجتماعية. وُلدت الدولة الحديثة من رحم التوازنات البريطانية بعد سقوط الدولة العثمانية، فكان التأسيس مزيجًا من الطموح الوطني والوصاية الأجنبية. جاء تتويج الملك فيصل الأول كحل وسط بين رغبة القوى الخارجية في إقامة نظام حليف لها وحاجة العراقيين إلى رمز يوحّد بلدًا ممزّقًا بين إرث الإمبراطورية العثمانية وتجزئة العشائر والمذاهب. ومع ذلك، بقيت الدولة تحت تأثير النفوذ البريطاني، وزادت معاناة الشعب نتيجة القيود على سيادته وحرمانه من حقوقه الأساسية.

على مدار القرن الماضي، شهد العراقيون ويلات الحروب والصراعات الداخلية والخارجية، بدءًا من الانقلابات العسكرية في منتصف القرن العشرين، مرورًا بصعود حزب البعث، ووصولًا إلى حكم صدام حسين الذي جمع بين إنجازات تنموية مؤقتة وقمع شديد. بينما استفاد بعض الفئات من عائدات النفط والنهضة العمرانية، غرق غالبية الشعب في الفقر والقمع والبطالة والتهميش السياسي. الحروب المتتالية، من الحرب مع إيران إلى غزو الكويت ثم العقوبات الدولية، لم تترك للعراقيين سوى الألم والمعاناة، بينما تآكلت المؤسسات، وانتهكت الحريات، وغابت العدالة الاجتماعية.

ولم يكن الشعب الكردي بمنأى عن هذه المآسي، بل واجه ويلات مزدوجة: اضطهاد النظام المركزي، محاولات التهجير، وقمعًا عنيفًا. على الرغم من ذلك، لعبت القيادة الكردية دورًا فاعلًا في الحفاظ على هوية الأكراد وإرساء قواعد الحكم الذاتي. شهدت كردستان سلسلة من الثورات والمقاومات ضد السياسات المركزية في بغداد، ابتداءً من ثورة أيلول 1961 بقيادة مصطفى البارزاني، ومرورًا بالنضالات المتكررة ضد النظام البعثي، وصولًا إلى تطوير تجربة سياسية وإدارية متقدمة بعد سقوط صدام، انعكست في إدارة الإقليم بمؤسسات مستقلة نسبيًا والحفاظ على الأمن والاستقرار.

◄ هل ستنجح هذه الانتخابات العراقية في تحقيق ديمقراطية حقيقية؟ وهل ستثمر عن حكومات قادرة على خدمة المواطنين أم أن حكم الأحزاب والميليشيات سيظل هو الغالب؟

في الوقت نفسه، لم تُهمل الحقوق الأساسية لبقية المكونات العراقية، بما في ذلك السنة والشيعة، وكذلك الأقليات الدينية مثل المسيحيين والصابئة والإيزيديين والشبك، الذين عانوا على مدار مئة عام من التهميش والقمع أحيانًا، ومن النزاعات المسلحة أحيانًا أخرى. أكدت التجارب الإقليمية والسياسية ضرورة وجود دولة عادلة قادرة على حماية حقوق جميع المواطنين بغض النظر عن انتمائهم الديني أو الإثني، وهو ما يشكل ركيزة أساسية لأي مشروع ديمقراطي حقيقي.

مع سقوط النظام في نيسان – أبريل 2003، دخل العراق مرحلة جديدة من التعقيد، حيث برزت المحاصصة الطائفية، تكاثرت الميليشيات، وازداد مستوى الفساد، ما أثر على الجميع دون استثناء. رغم ذلك، شكّلت قيادة إقليم كردستان نموذجًا للحكم الرشيد، وأثبتت أن إدارة شؤون المواطنين بالعدل والشفافية ممكنة حتى في بيئة معقّدة. بينما ظل معظم العراق يعاني من العنف الطائفي والانقسامات السياسية وانعدام الأمن، دلّت تجربة إقليم كردستان على قدرة شعبه على الصمود والمطالبة بممارسة حقه في تقرير المصير واحترام حقوق جميع المكونات.

واليوم، وبعد مرور أكثر من قرن على تأسيس الدولة العراقية، يطرح السؤال نفسه: هل سيتمكن العراق من بناء نظام وطني جامع يحمي حقوق جميع مواطنيه؟ ومع اقتراب الانتخابات العراقية المرتقبة في 11/11/2025، تتصاعد التساؤلات: هل ستنجح هذه الانتخابات في تحقيق ديمقراطية حقيقية؟ هل ستثمر عن حكومات قادرة على خدمة المواطنين، أم أن حكم الأحزاب والميليشيات سيظل هو الغالب؟ وهل ستشهد بغداد تحولًا نحو دولة مدنية قوية تحمي حقوق السنة والشيعة والأكراد وكل المكونات الدينية والإثنية؟

في الوقت الذي يتحدث فيه الساسة عن الديمقراطية، يعيش العراقيون تحت وطأة اقتصاد مترنّح وفساد متجذّر وبطالة متصاعدة، بينما يحاول إقليم كردستان الموازنة بين الاستقلال الاقتصادي والانتماء الفيدرالي ليشكّل نموذجًا يحتذى به في إدارة التنوع وحماية الحقوق. ويمكن القول إن العراق اليوم يقف على أعتاب جمهوريته الثالثة، جمهورية تبحث عن عقد اجتماعي جديد ينهض من بين أنقاض الماضي ويؤسس لزمن تتوازن فيه الدولة مع المواطن، وتتحول فيه الذاكرة من صراع إلى تجربة تعلم.

العراق الذي بدأ ملكيًا ثم صار جمهوريًا ثم دخل تجربة الديمقراطية المعلّقة، لا يزال يبحث عن جوهره المفقود: دولة فيدرالية عادلة تحكمها المؤسسات لا الأشخاص، والإرادة الشعبية لا إرادة الخارج. ومثل أي دولة مرت بمائة عام من الصراعات والمعاناة، يبقى الأمل قائمًا في أن العراق، رغم كل ما مرّ به، قادر على النهوض من جديد إذا امتلك شجاعة المصارحة وحكمة التوازن وإيمانًا بأن المستقبل لا يُبنى إلا على دروس التاريخ.

6