العراق أمام صناديق الشك والتهديد: هل ما زالت الديمقراطية ممكنة؟

إن عودة الاغتيالات السياسية في هذا التوقيت الحرج لا يمكن فصلها عن فقدان الثقة الشعبية بالعملية الديمقراطية ولا عن هشاشة الوضع الأمني الذي يفتح الباب أمام عودة الإرهاب.
الجمعة 2025/10/17
شعارات انتخابية تتلاشى بعد إعلان النتائج

منذ سقوط النظام السابق عام 2003، دخل العراق مرحلة جديدة من تاريخه السياسي، مرحلة حملت وعود الديمقراطية وبناء الدولة العادلة، لكنها حملت في الوقت ذاته موروثًا ثقيلًا من الانقسامات والولاءات والهشاشة المؤسسية. فبعد الاحتلال الأميركي وإعادة تشكيل النظام السياسي، عُقدت أول انتخابات حرة عام2005  وسط آمالٍ عريضة بأن تكون صناديق الاقتراع بداية لعراق جديد قائم على المواطنة والعدالة الاجتماعية.

لكن انتخابات2005  سرعان ما كشفت عن الوجه الآخر للمشهد الجديد، إذ طغت الطائفية على المشهد الانتخابي، وصوّت كثير من العراقيين بدافع الخوف والانتماء المذهبي لا بدافع الرؤية الوطنية. ومع مرور الوقت، أعادت كل دورة انتخابية إنتاج النخب ذاتها، وتكرّست المحاصصة الحزبية والمكوناتية على حساب بناء الدولة الاتحادية الحديثة.

تُظهر التقارير أن نسبة المشاركة انخفضت من أكثر من سبعين بالمائة في انتخابات 2005 إلى نحو 41 بالمائة في انتخابات 2021 وهو مؤشر خطير على انحسار الأمل الشعبي وفقدان الثقة

في انتخابات 2010 و2014، تراجع الخطاب الوطني لصالح الاصطفافات السياسية الضيقة، فيما بقيت وعود الإصلاح مجرد شعارات انتخابية تتلاشى بعد إعلان النتائج. أما انتخابات2018  و2021 فقد كانت بمثابة الإنذار الأوضح لتآكل الثقة الشعبية، إذ شهدت أدنى نسبة إقبال منذ عام 2003، بعدما شعر المواطن بأن صوته لا يُحدث فرقًا وأن النتائج محسومة مسبقًا.

تُظهر التقارير أن نسبة المشاركة انخفضت من أكثر من 70 بالمائة في انتخابات2005  إلى نحو 41 بالمائة في انتخابات 2021، وهو مؤشر خطير على انحسار الأمل الشعبي. فالشباب الذين خرجوا إلى الشوارع في احتجاجات تشرين مطالبين بالتغيير، أصبح كثير منهم اليوم عازفًا عن التصويت، بعدما فقدوا الثقة بجدوى العملية الديمقراطية.

ورغم أن الدستور العراقي نص على أن العراق دولة اتحادية فيدرالية تمنح المكونات والأقاليم حق إدارة شؤونها الداخلية، فإن الواقع السياسي أثبت أن هذه الفيدرالية لم تُطبق فعليًا، بل تحولت إلى مركزية صارمة تمسك بها بغداد، ما أعاد إنتاج أنماط الحكم القديمة بواجهة جديدة. فالمناصب والموارد بقيت رهينة الصفقات والمحاصصات، بينما هُمّشت المحافظات والإقليم سياسيًا واقتصاديًا.

ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية في العراق والمزمع إجراؤها في 11 من نوفمبر/تشرين الثاني 2025، يعود القلق ليخيّم مجددًا، وهذه المرة في ظل مناخ أمني متوتر يذكّر العراقيين بسنوات العنف السياسي. فقد شهدت منطقة الطارمية شمال بغداد مؤخرًا حادثة اغتيال أحد المرشحين للانتخابات، في جريمة أعادت إلى الأذهان مشاهد التصفيات التي لطالما رافقت مراحل التنافس الانتخابي. هذه الحادثة ليست معزولة، بل تعكس هشاشة الأمن الانتخابي واستمرار نفوذ السلاح خارج سلطة الدولة، وهو ما يثير الخشية من أن تتحول الحملات الانتخابية إلى ميادين لتصفية الحسابات بدل التنافس الديمقراطي.

يبقى الأمل قائمًا ما دامت هناك إرادة شعبية حيّة وشباب يرفضون الاستسلام لليأس. فإصلاح الديمقراطية لا يبدأ من صناديق الاقتراع، بل من إصلاح بيئتها الأخلاقية

لم يعد الخطاب الانتخابي اليوم مساحة لعرض البرامج والرؤى، بل تحول إلى ميدان مليء بالاتهامات والتحريض الطائفي والعشائري، حيث تُستخدم الأموال والنفوذ الإعلامي لتشويه الخصوم بدل إقناع الناخبين. هذه الممارسات تُفرغ الانتخابات من معناها الحقيقي وتحوّلها إلى صراع على النفوذ، لا وسيلة للتداول السلمي للسلطة.

تتأثر العملية الانتخابية كذلك بتدخلات خارجية وإقليمية، عبر دعم قوى أو تحالفات معينة، مما يضاعف شكوك المواطنين في نزاهة الاقتراع. ومع تزايد الانقسامات الداخلية، يتراجع التماسك الاجتماعي ويصبح الإصلاح المؤسسي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.

إن عودة الاغتيالات السياسية في هذا التوقيت الحرج لا يمكن فصلها عن فقدان الثقة الشعبية بالعملية الديمقراطية، ولا عن هشاشة الوضع الأمني الذي قد يفتح الباب أمام عودة الإرهاب بأشكاله الجديدة. فحين تُغتال الأصوات الحرة ويُستبدل الحوار بالرصاص، تُصاب الديمقراطية في جوهرها، ويُصبح المواطن أسير الخوف بدل أن يكون شريكًا في القرار. إن الإرهاب لا يولد من فراغ، بل يتغذى على الفوضى والظلم وفقدان الثقة، وهي كلها عناصر تتكاثر في أجواء انتخابية يسودها التوتر والتهديد والإفلات من العقاب.

ومع ذلك، يبقى الأمل قائمًا ما دامت هناك إرادة شعبية حيّة وشباب يرفضون الاستسلام لليأس. فإصلاح الديمقراطية لا يبدأ من صناديق الاقتراع، بل من إصلاح بيئتها الأخلاقية، وتحريرها من سطوة المال والسلاح والخوف. العراق لا يحتاج إلى فكر مركزي القرار بقدر ما يحتاج إلى ثقافة سياسية اتحادية جديدة تؤمن بأن الوطن أكبر من الجميع، وأن مستقبل الدولة الاتحادية مرهون بقدرتها على حماية الحياة قبل الأصوات، والإنسان قبل الشعارات، من مبدأ كفله الدستور وتغاضى عنه البعض.

6