رسوم التعليم الخصوصي ترهق كاهل الأسر المغربية

دخول الآباء في دوامة ديون مزمنة يؤثر على التوازن الأسري.
الجمعة 2025/09/05
ارتفاع كلفة التعليم الخصوصي

مع بداية كل موسم دراسي تُطرح مسألة ارتفاع كلفة التعليم الخصوصي في المغرب، وسط غياب قوانين تضبط أسعار الكتب والمستلزمات الدراسية التي تخضع غالبا لقانون السوق. وتؤثر هذه الوضعية على الأسر ذات الدخل المتوسط كما تخلق فروقا بين الطلاب، ما يضع أولياء الأمور بين خيارين صعبين، فإما توفير تعليم جيد لأبنائهم وانهيار أوضاعهم المادية أو اللجوء إلى التعليم الحكومي.

الرباط – تعاني شريحة واسعة من الأسر المغربية، خاصة ذات الدخل المتوسط والمحدود، من الارتفاع المستمر لتكاليف التمدرس في مؤسسات التعليم الخصوصي، ولا يقتصر الأمر فقط على رسوم التسجيل السنوية والتأمين الإجباري، بل يشمل أيضاً أعباء إضافية تتعلق بشراء الكتب والمقررات الدراسية، واللوازم المدرسية، التي تُفرض في الكثير من الأحيان على الأسر من داخل المؤسسة نفسها وبأسعار تفوق السوق.

وذلك رغم تأكيد وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة أنها ستعمل من خلال القانون المتعلق بالتعليم المدرسي على مراجعة الإطار القانوني والتنظيمي للتعليم الخصوصي، بهدف تعزيز الشفافية والوضوح في العلاقة بين مؤسسات التعليم الخصوصي وأولياء الأمور، من خلال تنظيم الجوانب المالية والإدارية والتربوية لهذه العلاقة.

ورصدت “العرب” شهادات آباء أكدوا على ارتفاع رسوم التسجيل في عدد من مؤسسات التعليم الخصوصي مع انطلاق الموسم الدراسي الجديد، وهو ما يضعهم أمام ضغط مالي كبير خصوصا وأن هناك مصاريف أخرى متعلقة بتمدرس أبنائهم.

العلاقة بين الأسر ومؤسسات التعليم الخاص تنظمها عقود تتضمن مجموعة من المواد التي تحدد الأمور المرتبطة برسوم التسجيل والتأمين وواجبات التمدرس

ويرى فؤاد يعقوبي، الباحث في علم النفس الاجتماعي، أن إثقال كاهل الأسرة المغربية برسوم التعليم الخصوصي يتجاوز كونه مجرد ضغط مالي، ليُصبح مصدر اختلال نفسي واجتماعي عميق في بنية الأسرة، فالكثير من الأسر، خاصة ذات الدخل المتوسط والمحدود، تُجبر نفسيًا على اللجوء إلى التعليم الخصوصي تحت ضغط عام، أساسه فقدان الثقة بالمدرسة العمومية، وهاجس “ضمان مستقبل أفضل” للأبناء، وأن هذا الضغط يُولد مشاعر متضاربة داخل الأسرة؛ فمن جهة شعور بالمسؤولية المفرطة، ومن جهة أخرى قلق دائم من العجز عن الاستمرار في تغطية المصاريف المتزايدة.

وجاء مشروع القانون المتعلق بتنظيم التعليم المدرسي الخصوصي، الذي أعدته وزارة التربية الوطنية، كمبادرة تشريعية تهدف إلى معالجة عدد من الاختلالات التي يعرفها هذا القطاع، ويرمي المشروع إلى تعزيز الشفافية والوضوح في العلاقة بين مؤسسات التعليم الخصوصي وأولياء الأمور حتى لا يخلق للأسرة أعباء اجتماعية ومالية، من خلال تنظيم الجوانب المالية والإدارية والتربوية لهذه العلاقة، ووضع حد للممارسات غير القانونية أو غير الأخلاقية التي قد تضر بمصلحة المتعلمين وأسرهم.

وأكدت فيدرالية الآباء وأمهات وأولياء التلاميذ، أن العلاقة بين الأسر ومؤسسات التعليم الخاص تنظمها عقود تتضمن مجموعة من المواد التي تحدد الأمور المرتبطة برسوم التسجيل والتأمين وواجبات التمدرس، وأن هذه المسائل يتم الاتفاق عليها أحيانًا بين الأسرة والمؤسسة إما في نهاية السنة الدراسية أو في بدايتها، مع تراضي الطرفين بشأن المبالغ المتعلقة بالتسجيل وإعادة التسجيل والرسوم السنوية.

ووقعت الفيدرالية الوطنية بالتعاون مع الهيئات الأخرى ممثلة في جمعية الآباء وممثلي التعليم الخصوصي، عقدًا يلتزم فيه الجميع باحترام بنود تحمي حقوق جميع الأطراف، سواء مؤسسات التعليم الخصوصي أو الأسر التي تختار هذه المؤسسات لتعليم أبنائها.

ويدعو الكل إلى إعادة مراجعة وتحسين قانون الإطار المتعلق بالتربية والتكوين، في الشق المتعلق بالتعليم الخصوصي لمتابعة المواد التي يتم تطبيقها والتي لا تُطبق، بهدف الحفاظ على علاقة خالية من التشنجات بين الأسر ومؤسسات التعليم الخصوصي، رغم أن للمستهلك اختيار قبول شروط المؤسسة أو البحث عن بديل آخر، وفي حالة نشوء نزاعات يمكن اللجوء إلى السلطات المحلية المختصة للفصل فيها.

إثقال كاهل الأسرة المغربية برسوم التعليم الخصوصي يتجاوز كونه مجرد ضغط مالي، ليُصبح مصدر اختلال نفسي واجتماعي عميق في بنية الأسرة

وأوضح فؤاد يعقوبي، في تصريح لـ”العرب”، أن هذا الوضع يُنتج نوعًا من الاحتراق النفسي لدى الآباء، يتجلى في التوتر والغضب والشعور بالذنب، بل وأحيانًا الدخول في دوامة ديون مزمنة تؤثر على التوازن الأسري والعلاقات داخل البيت. أما بالنسبة إلى الأطفال فالوضع لا يقل خطورة، إذ أن الطفل يلتقط بسرعة هذا التوتر داخل محيطه، ويبدأ في بناء صورة ذاتية مشروطة: “أنا مقبول ومحبوب إذا كنت متفوقًا،” أو “قيمتي في كلفة تعليمي،” وهي تصورات تؤثر على ثقته بنفسه، وعلى تطوره النفسي والاجتماعي، كما أن البيئة التنافسية المفرطة في بعض المدارس الخاصة تعزز القلق، وتقلل الإحساس بالأمان العاطفي.

من جهة أخرى لاحظ الباحث في علم النفس الاجتماعي آثارًا اجتماعية مقلقة، مثل بروز الفوارق الطبقية داخل الأحياء والمدارس، وتزايد الإحساس بالتمييز، خصوصًا بين الأطفال المنتمين إلى المدارس الخاصة والعامة، وهذا يُعمّق مشاعر الإقصاء والانفصال الاجتماعي لدى فئات واسعة من الأطفال، “وبالتالي ما نعيشه اليوم هو نموذج تعليمي يُحمِّل الأسرة مسؤولية لا طاقة لها بها، ويضع الطفل تحت ضغط لا يتناسب مع حاجاته النفسية والتربوية.”

وقالت وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة إنها ستعمل، من خلال القانون المتعلق بالتعليم المدرسي، على مراجعة الإطار القانوني والتنظيمي للتعليم الخصوصي، بما يحقق الأهداف الرامية إلى تجويده ليلعب دوره كاملا بجانب المدرسة العمومية في تعميم تعليم منصف وذي جودة.

ويذكر أن مجلس الحكومة صادق في أبريل الماضي على مشروع قانون يتعلق بالتعليم المدرسي، قدمه محمد سعد برادة، وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، والذي يندرج في إطار استحضار أحكام دستور المملكة والتوجيهات الملكية الداعية إلى إصلاح المنظومة التربوية وعملا بمقتضيات الرؤية الإستراتيجية للإصلاح 2015 – 2030 وتطبيقا لأحكام القانون الإطاري المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي.

الحق في تعليم جيد لا يجب أن يكون مرادفًا للضغط النفسي أو التفاوت الطبقي، بل هو حق إنساني يُصان بكرامة وعدالة

وترى الجامعة المغربية لحقوق المستهلك أن فاعلية القانون تعتمد بشكل كبير على قدرة الجهات المسؤولة على تطبيقه، مشيرة إلى التحديات التي تواجهها وزارة التعليم في هذا الصدد، في ظل تأثير بعض الجهات الخاصة القوية في السوق، وأن على أولياء الأمور التزام متابعة حقوقهم والتأكد من توقيع عقود واضحة مع المؤسسات التعليمية تحدد المبالغ المالية الشهرية وحقوقهم تجاه جودة التعليم والتربية المقدمة لأبنائهم.

وقالت الجامعة الوطنية للتعليم إن الدخول المدرسي يشكل سنويا أحد الطقوس المتكررة، دون أن يحمل جديدا إيجابيا للمدرسة العمومية، بل إن محطة سبتمبر أصبحت كل سنة كابوسا يقض مضجع الأسر المغربية الفقيرة، وذات الدخل المحدود، في ظل تسليع التعليم وكافة أنشطته، بدءا باللوازم المدرسية التي ترتفع أسعارها بشكل صاروخي سنة بعد أخرى، وهو ما يخلق مشاكل اجتماعية للأسر نتيجة عدم قدرتها على توفير ما يطلبه أبناؤها وبناتها، ويجعل الأبناء يتلمسون الفوارق الاجتماعية داخل الفضاءات المدرسية عامة والفصول المدرسية خاصة.

ويعتقد يعقوبي أن معالجة هذا الوضع لا تتطلب فقط إصلاح التعليم، بل أيضًا الاعتراف بأن الحق في تعليم جيد لا يجب أن يكون مرادفًا للضغط النفسي أو التفاوت الطبقي، بل هو حق إنساني يُصان بكرامة وعدالة.

وفي جواب كتابي من الوزير محمد سعد برادة على سؤال للمستشار البرلماني خالد السطي عن الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، حول التفاوت في جودة التعليم بين القطاعين العام والخاص، شدد على أن الوزارة ستحرص عبر الإطار القانوني على ضمان الشفافية في العلاقة بين مؤسسات التعليم الخصوصي وأولياء أمور التلاميذ، مؤكدا أن لجان المراقبة الإدارية على الصعيدين الجهوي والإقليمي ستتأكد من التزام هذه المؤسسات بالإعلان عن وضعيتها القانونية، وعدم مغالطة المتعلمين وأسرهم في الإعلانات الصادرة عنها.

ويهدف مشروع هذا القانون إلى إرساء وترسيخ نموذج المدرسة الجديدة التي يجسدها مشروع مؤسسات الريادة المنفتحة على الجميع والمتوخية لتأهيل الرأسمال البشري، باستنادها على مبادئ المساواة وتكافؤ الفرص والجودة للجميع، كما يتضمن مقتضيات منها تحديد دور مؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي في تحقيق أهداف المنظومة التربوية، كما يتطرق المشروع إلى طبيعة النموذج البيداغوجي المعتمد في المؤسسات التعليمية، وإلى تمويلها وتدبيرها وحوكمتها، وإلى طبيعة العلاقة بينها وبين المجتمع المدني.

16