"جناح كلود مونيه" سيرة فؤاد العروسي من تونس إلى باريس
السير الذاتية ليست نصوصا عن الذات ومسيرتها وتاريخها الخاص فحسب، بل من شأنها أن تكون مواد توثق للتاريخ الجمعي وللأمكنة، كما تطرح أبرز الأفكار والقضايا، في تقاطع مع رحلة الذات الساردة لتاريخها. ويمنح ذلك نوع السيرة الذاتية مكانة هامة عند قراء الأدب. هذا التقاطع بين الذاتي والفكري والتاريخي حاضر بحميمية كبيرة في سيرة الباحث التونسي فؤاد العروسي.
كتب بعض المثقفين العرب سيرهم الذاتية، وتناولوا شذرات من حياتهم في الغرب، وقد انطلق أغلبهم من عواصم غربية مثل باريس عند توفيق الحكيم في كتابه “عصفور من الشرق”، أو “الحي اللاتيني” لسهيل إدريس، أو رفاعة الطهطاوي في مؤلفه “تلخيص الإبريز في تلخيص باريس”، كما تحضر لندن لدى الطيب صالح في رائعته “موسم الهجرة إلى الشمال”، بينما استحضر كتاب وأدباء آخرون أمكنة مختلفة عاشوا ودرسوا فيها.
أذكر هنا عالم الاجتماع اللساني التونسي الدكتور فؤاد العروسي في سيرته “جناح كلود مونيه”، التي يقصد بها الحي الجامعي في مدينة روان، والصادرة حديثا في تونس عن منشورات أ ب س وتقع في 319 صفحة من الحجم الكبير وتحتوي على عشرة فصول.
الحب والفراق
يتناول الكاتب في سيرته تاريخ حصوله على شهادة الباكالوريا، وسفره إلى مدينة روان في شمال باريس لمواصلة دراسته بتشجيع من وزارة التعليم العالي التونسية، يصف في هذا الفصل بصدق لحظات الفراق المؤلمة، وحالته النفسية المتوترة وهو شاب في ربيع عمره، دون أن ينسى لقاءه بمسافرين في القطار، وما أثير بينهم من حوار ومناقشة حول الأديب الكبير محمود المسعدي.
يحكي العروسي عن رحلته إلى باريس صحبة بعض رفاقه ولحظة ركوب الطائرة المتوجهة إلى “عاصمة الأنوار”، حيث قضى ليلته الأولى في محطة قطار الشمال بباريس، ينتظر بشغف وقلق نور الصباح للالتحاق بشخص من عائلته التي قضى معها أسبوعا قبل أن يستلم مفاتيح غرفته في الحي الجامعي الذي يحمل اسم “جناح مونيه”، تخليدا لاسم فنان فرنسي كبير عكس طبيعة المنطقة في أغلب لوحاته، وقد كان رائدا للمدرسة الانطباعية في الفن.
بدأ فؤاد يتأقلم مع حياة الصقيع، وكون علاقات مع الطلبة القادمين من مختلف بلدان العالم، ومع مرور الأيام انخرط في النضال الطلابي، وتعايش مع مختلف الهزات التي مر بها العالم العربي، خاصة القضية المركزية فلسطين، إلى أن تعرف على لينا الشابة الألمانية التي عاش معها قصة حب نبيلة، وذهبت معه إلى تونس وتعرفت على أسرته وعلى تقاليدها، وقد تزامن وجودها في تونس مع سفر والده إلى البقاع المقدسة.
ويروي كيف زارها لاحقا في ألمانيا وتعرض لعاصفة عاطفيةأثرت فيه كثيرا، بعد أن لاحظ أن صديقته الشابة بدأت تتردد في انفعالاتها معه، وتظهر له نوعا من البرودة والفتور الذي بدأ يدب بينهما، ما أجبره على اتخاذ قرار صعب وهو وضع حد نهائي لعلاقتهما العاطفية، فتركها وعاد إلى روان مواصلا دراسته ومتحديا آلام الفراق.
إنه شرق يحن إلى غرب، وغرب يعيش على إيقاع تقاليده وعاداته، وتلك ثنائية غريبة يصعب التحكم فيها، ذلك أن أوجاع الفراق لم تكن صعبة فحسب، بل أسست عند فؤاد تساؤلات محيرة ومؤلمة، كيف تغيرت لينا بعد أن بنى معها مشروع زواج قريب، لكنها انقلبت عليه، دون أن تأبه بما كان بينهما من علاقة عاطفية جميلة وقوية، لقد فعلت ذلك ببرودة تامة وبلا اكتراث، وكأن ما قامت به كان أمرا عاديا.
هناك تساؤلات كثيرة جارحة ومحيرة، حول تصرفات هذا الغرب القاسي، وتقلبات لينا بين عشية وضحاها، حين وضعت حدا ونهاية لأحلام فؤاد الوردية للعيش معا تحت سقف واحد، بعد أن تعرفت على عائلته وتعرف على أسرتها.
العربي والغرب
ثمة تركيز واضح عبر تسلسل أحداث سيرة فؤاد في إقامة المقابلة بين عالمين، إذ يذكر مجددا تونس وتقاليدها وعاداتها وثقافتها وسياستها ومثقفيها وفنانيها علاوة على إسلام أهلها السمح المتمثل في ذهاب والد فؤاد إلى الحج، ووقع ذهابه وعودته لدى أسرته وأهله وحتى جيرانه وأصدقائه، في المقابل نلمس برودة المجتمع الأوروبي وانعدام الكرم فيه، وقساوة لينا في فراق فؤاد دون سبب مبرر، ما جعله يكتشف البون الشاسع بين عواطف الأنا العربي – المسلم وعواطف الآخر الأوروبي.
وعبر هذا الكتاب سجل فؤاد سيرته التي من المفروض، في رأيي، أن يضيف إلى عنوانها الأصلي عنوانا فرعيا “عصفور من تونس”، حتى يمنح القارئ مفتاحا لفهم محتواها منذ البداية، فسيرته هذه قصد بها تدوين شهادة شاب تونسي عمل كل ما في وسعه ليعيش غدا أجمل، سائرا في ذلك على خطى الشاعر الكبير أبي القاسم الشابي الذي قال في قصيدته الشهيرة “إرادة الحياة”: ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر.
لقد تغلب فؤاد على الكثير من الصعوبات، وأصبح من بين أنجب الباحثين في الجامعة الفرنسية، ثم التقى شابة تونسية، عانقت أحلامه ووقفت معه ليكون لاحقا من بين أهم أساتذة جامعة روان في علم الاجتماع اللساني. وأشرف ولا يزال يشرف على رسائل دكتوراه، مواصلا أبحاثه وإنجازاته قولا وعملا، وقد واصل تجسيد رسالته الثقافية والأكاديمية بدراسة وتفكيك إشكالية التداخل الثقافي بين الشرق والغرب، ومساءلة الهوية الثقافية، التي لا شك أننا سنلمس بعض نتائجها في الجزء الثاني من عمله الذي يعكف على كتابته حاليا.