الفن المصري يعالج أزمة العلاقة بين الملّاك والمستأجرين
من أهم وظائف الفن الاشتباك مع الواقع ومعالجة قضايا المجتمع الذي ينشأ فيه. من هنا نلاحظ أن أغلب الفنون في مصر، وعلى رأسها السينما والدراما والمسرح، مثلت واجهة للتصدي لأبرز ما يواجهه المصريون، ومعالجته بالنقد وبأساليب مختلفة. ومن بين هذه القضايا الحارقة قضية الإسكان التي ما زالت تؤرق المصريين.
القاهرة - فجر قيام مجلس النواب المصري بإدخال تعديلات كبيرة على قانون الإيجار القديم وتحرير العلاقة بين الملاك والمستأجرين بعد سبع سنوات جدلا واسعا، وأحدث حالة من الرضا لدى فريق وغضبا في صفوف الفريق الآخر. وتكشف ذاكرة السينما والمسرح والدراما في مصر رصد حقيقة الأوضاع وأزمات الإسكان الخانقة التي عاشها المجتمع منذ ستينات القرن الماضي، وكانت البلاد خلالها تخضع لقانون إيجاري وحيد، يقضي بامتداد العلاقة الإيجارية إلى ورثة المستأجرين دون المساس بقيمة الإيجار وقت توقيع العقد.
وحرصت مصر الاشتراكية آنذاك في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر على تخفيض كلفة إيجارات المساكن، لتكون في متناول جميع الطبقات، وحاول بعض الملاك الالتفاف على القانون وإحداث أزمة إسكان لحجبهم وحداتهم السكنية عن طالبي الإيجار، وإتاحتها فقط مقابل اتفاق غير مكتوب من وراء ظهر القانون بتقاضي مبالغ غير شرعية كبيرة لتوفير هذه الوحدات عرفت آنذاك باسم “خلو الرجل”، وهو مبلغ مالي يدفع مقدما لصاحب البناية حسب أهميتها وموقعها ومساحتها.
أزمة الإسكان
منذ ستينات القرن الماضي رصدت الكثير من الأعمال السينمائية والدرامية والمسرحية تطور أزمة الإسكان في مصر
هذه الأزمة الخانقة أبرزها العمل المسرحي “حضرة صاحب العمارة” للكاتب فايز حلاوة وقدمتها فرقة تحية كاريوكا عام 1970 وهي فرقة شكلها الثنائي فايز حلاوة وتحية كاريوكا في منتصف ستينات القرن الماضي، لتقديم عروض مسرحية جريئة انتقدت الأوضاع السياسية والاجتماعية في ذلك الوقت.
والمسرحية التي أدى دور البطولة فيها حلاوة وكاريوكا بالاشتراك مع الفنان الكوميدي بدرالدين جمجوم جاءت كصيحة مدوية ومحذرة من تفاقم أزمة الإسكان، وكشفت بجلاء كبير جشع الملاك وحجبهم للشقق السكنية استغلالا لأزمة الإسكان الطاحنة ومن أجل تسلّم مبالغ كبيرة مسبقا.
وعبر تناول ساخر يضطر أحد المحامين الشبان إلى الزواج من سيدة تعمل في مجال الأزياء تنافسه في الحصول على شقة في إحدى بنايات مالك جشع، حتى يتمكنا سويا من الإقامة بالشقة.
واقتحمت السينما المصرية ملف أزمة الإسكان لتقدم معالجات ميلودرامية جادة، وتراجيدية، وكوميدية بألوانها السوداء والفكاهية، وكلها أعمال لاقت إقبالا جماهيريا لسخونة الطرح الذي تتصدى له.
وجاء العمل السينمائي “أزمة سكن” الذي عرض عام 1972 كنموذج لهذه المعالجات، من خلال رؤية صاغها الكاتب والسيناريست فيصل ندا، وأخرجها حلمي حليم، لموظف شاب، لعب دوره الفنان محمد عوض، انتقل من فرع إحدى الشركات بالأقاليم إلى المقر الرئيسي للشركة في القاهرة، ويواجه معضلة تدبير خلوات الرجل (المقدمات المالية مسبقة الدفع) التي يطلبها ملاك العقارات مقابل الحصول على شقة سكنية، وهو أمر لا يقدر عليه نظرا إلى دخله المحدود، ويضطر إلى ممارسة بعض الانحرافات في العمل ليتيسر له الحصول على وحدة سكنية.

جدد الكاتب فيصل ندا في عام 1977 طرح الأزمة الخانقة التي يواجهها خريجو الجامعات، بشأن تدبير نفقات الحياة وتوفير السكن، عبر المسرحية الشهيرة “المتزوجون”، وجسد فيها الكوميديان سمير غانم وجورج سيدهم دور موظفين حديثي التخرج تضطرهما ظروفهما المادية إلى الإقامة في قبو رديء لعدم تمكنهما من تدبير “الخلوات” التي يطلبها ملاك العقارات، وقادهما ذلك إلى الزواج من فتاتين ثريتين للإقامة في أماكن أفضل وعيش حياة مترفة.
وفي العام التالي (1978) قدمت السينما المصرية عملا من إخراج زكي صالح وبطولة فريد شوقى وسمير صبري، ناقش هموم الشباب في سبعينات القرن الماضي واختصرها عنوان الفيلم بجملة “شقه وعروسة يا رب”، وتدور الأحداث حول رحلة أحد الشباب المضنية للعثور على شقة في أي مكان تمكنه من التقدم للزواج.
انتقالا إلى ثمانينات القرن الماضي رصدت الكثير من الأعمال السينمائية والدرامية تطور أزمة الإسكان من مرحلة صعوبة توفير الوحدات السكنية إلى كون هذا التوافر إحدى المعجزات، وقدم الفنان عادل إمام أحد أهم أعماله السينمائية الذي أشاد به عدد كبير من النقاد، ولاقى إقبالا جماهيريا في فيلمه “كراكون في الشارع” الذي طرح عام 1985 وكتبه السيناريست أحمد الخطيب وأخرجه أحمد يحيي، ووضع موسيقاه التصويرية الفنان عمار الشريعي.
قدم الفيلم طرحا افتراضيا لمواجهة أزمة الإسكان، حيث يفاجأ مهندس شاب وزوجته، جسدهما عادل إمام ويسرا، وأسرته المكونة من طفلين ووالدته بانهيار العقار الذي يقيمون فيه ليواجهوا استحالة توفير سكن بديل ليلجأ المهندس الشاب إلى بناء “كرافان” خشبي يؤويه وأسرته، لكنه يواجه مشكلة مع الشرطة وسخرية من المجتمع.
وفي مجال الدراما عاود المؤلف فيصل ندا فتحه ملف أزمة الإسكان من زاوية جشع الملاك، وطلبهم مقدمات إيجار أو مبالغ تمليك طائلة عبر مسلسل “أهلا بالسكان”، وعرض عام 1984 وأخرجه عبدالله الشيخ، وأدت دور البطولة فيه مجموعة من الفنانين، منهم حسن عابدين ونبيلة السيد وحسن مصطفى، وعرض العمل الدرامي مخططات النصب التي يمارسها أحد ملاك العقارات لإيهام المستأجرين بخدمات عقاره المتميزة ليكتشفوا بعد ذلك تدبير هذه المبالغ بكونها خدمات وهمية لا تتوافر على أرض الواقع.
جشع الملاك
السينما المصرية اقتحمت ملف أزمة الإسكان لتقدم معالجات ميلودرامية جادة، وتراجيدية، وكوميدية بألوانها السوداء والفكاهية
أزمة الإسكان الخانقة في فترة الثمانينات قادت الكاتب الساخر أحمد رجب أيضا إلى كتابة روايته الساخرة “صاحب العمارة” وحولها السيناريست عاطف بشاي إلى فيلم أنتجه التلفزيون المصري عام 1988 وأخرجه إبراهيم الشقنقيري، ولعب دور البطولة فيه فؤاد المهندس ويحيى شاهين ويونس شلبي وتحية كاريوكا.
تصدى الفيلم لقضية استغلال صاحب أحد العقارات للباحثين عن سكن، حيث يعدهم بتوفير شقق لهم مقابل قيامهم بأعمال البناء، ثم يكتشفون في النهاية أنه احتال عليهم.
أما الكاتب إبراهيم مسعود والمخرج علي عبدالخالق فقد جنحا بعملهما التراجيدي “مدافن مفروشة للإيجار”، والذي عرض عام 1986، إلى تقديم عمل شديد القتامة، حيث يضطر رب أسرة، جسده الفنان محمود ياسين، إلى الإقامة مع أفراد أسرته في فناء أحد المقابر بالقاهرة عقب إزالة منزلهم، ولا يكتفي الفيلم الذي تدور أحداثه في أجواء سوداوية بمناقشة أزمة الإسكان إنما تعداها للغوص في عالم الاتجار بأعضاء المتوفين حديثا من المدفونين في المقابر.
وفي أربعينات وخمسينات القرن الماضي وقبل صدور تشريع الإيجار القديم، هناك العديد من الأعمال السينمائية التي تحدثت بشكل عارض ضمن سردياتها عن رغبة ملاك العقارات في تسكين وحداتهم السكنية إلى درجة قيامهم بوضع لافتات “شقق للإيجار” بالخط العريض على عقاراتهم، ما يدلل على وجود قانون سوق حقيقي يحكم عالم العقارات آنذاك، الفيصل فيه معدلات العرض والطلب وسط إشارات في هذه الأفلام إلى بساطة ويسر تنقل المستأجرين بين الشقق المختلفة التى تتوافر بإيجارات معقولة حسب الأحياء التي تقع فيها.
ويحضرنا هنا فيلم “لعبة الست” لنجم الكوميديا نجيب الريحاني وأخرجه ولي الدين سامح عام 1946، وفيه يتنقل حسن أبوطبق، العامل في إحدى المتاجر، بأريحية ودون معاناة بين الوحدات السكنية كلما ارتفع دخله بضعة جنيهات.
وتخبرنا قصص وحواديت أفلام هذه الفترة بوفرة المعروض وعدم وجود التلاعب والسيادة التامة لقانون العرض والطلب الحاكم للسوق، مع رقابة الدولة الكاملة لمنع الجشع والاحتكار، ووضع قواعد تسببت في استقرار السوق العقاري، الأمر الذي تبدل مع اضطرار الدولة إلى التدخل بشكل مباشر لحماية المستأجرين من ارتفاع كلفة إيجارات العقارات لتخفيف الأزمات الخانقة التي واجهت شريحة من المواطنين.