حين تكون المعارك على الجبهات الخطأ

أقسى ما يصدم في سوريا اليوم مجموعة تبرر سوء أخلاق أفعالها بالمقارنة مع أفعال الأسد وتتجاهل أنها تتبنى ثورة اندلعت لتغيير نهج الأسد ولفظاعة همجيته لا أن تكرر أفعاله.
الخميس 2025/08/14
لا نريد الحرب.. نريد الحياة

الحكمة التي تحتاج إليها اضطرابات المرحلة في سوريا، ميتة في نفوس السواد الأعظم من الشعب، لا نائمة، لأن النائم يوقظ بعد حين، لكن الفئة الشعبية من الغالبية في سوريا هي التي وجدت في الحكمة خصمها لا ضالتها. تجربة خمسين عامًا من ثقافة البعث الأسدي لقنت السوريين بالوقائع أن الحياة للمنافق والمزيف، وللرويبضة، ولنظام التفاهة الذي نظّر إليه في القرن العشرين ألان دونو، ولخصه بقوله “إن التفاهة قد بسطت سلطانها على كافة أرجاء العالم. فالتافهون قد أمسكوا بمفاصل السلطة، ووضعوا أيديهم على مواقع القرار، وصار لهم القول الفصل والكلمة الأخيرة في كل ما يتعلق بالخاص والعام.”

هذه الفكرة جاء بها النبي محمد قبل خمسة عشر قرنًا في حديث الرويبضة: “سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوّن فيها الأمين، ويَنطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة.” وإذا كان العالم بأسره يميل إلى نظام التفاهة برأي دونو، فإن البعث الأسدي أكثر الأنظمة التي جعلته عقيدة سياسية في المجتمع.

ولم تكن أحداث السويداء إلا تجليات للعقيدة التي ورثوها عن نظام الأسد، فكان رجل الدين الذي يجيّش طائفيًا، وينصّب نفسه وليًّا للطائفة، يفرض على الدولة نظامًا علمانيًا. من جهة المنطق، تمثل هذه المتطلبات صورة كاريكاتورية للعلمانية، ومن جهة أخرى تطعنها بخاصرتها، فالعلمانية تقوم على الديمقراطية، أي نظام الأكثرية انتخابيًا، بينما هنا تُفرض من قبل الأقلية على الأكثرية. والطعنة الثانية أن العلمانية هي نظام وضعي يتفق عليه المجتمع ليحقق مواطنة عادلة مجردة من أحقيات تاريخية أو دينية أو عرقية، بينما نجده مطلبا دينيًا لفئة تريد العلمانية للدولة والدينية لذاتها.

مثلما تفجرت أحداث السويداء بعناد مشيخة العقل واستكبارها في فرض رؤيتها، أسهم بعض المتنفذين الميدانيين من خصومها بما يدينهم بسوء أفعالهم واستفزازاتهم، وتطرفهم بالانتقام من غير مراعاة لأحكام إنسانية

وفي الجهة المقابلة، انقلبت فئات ذات صبغة دينية على ولي أمرها في رؤيته لبناء الدولة، ومارست أبشع صور الانتهاكات الإنسانية بدافع النقمة والثأر، والذاتية الضيقة المؤدلجة في تطبيق أحكام الدين في المعارك، واعتمدت أساليب استفزازية تبني ثأرًا تاريخيًا مضادًا، وتقدم صورة مظلمة عن سماحة الإسلام وتعاليمه المشرقة إنسانيًا، وذلك بذرائع ردة الفعل على مظالم أنكرتها.

إن أقسى ما يصدم في سوريا اليوم مجموعة تبرّر سوء أخلاق أفعالها بالمقارنة مع أفعال الأسد، وتتجاهل أنها تتبنى ثورة اندلعت لتغيير نهج الأسد ولفظاعة همجيته، لا أن تكرر أفعاله بدعوى الثأر والانتقام. من غير شك، تمثل جرائم الأسد استثناءً تاريخيًا في أدلجة الهمجية، لكن منوط بالثائر أن يظهر قيما ثورته، لا أن يقلد من ثار عليه.

ومثلما تفجرت أحداث السويداء بعناد مشيخة العقل واستكبارها في فرض رؤيتها، أسهم بعض المتنفذين الميدانيين من خصومها بما يدينهم بسوء أفعالهم واستفزازاتهم، وتطرفهم بالانتقام من غير مراعاة لأحكام إنسانية.

وضاعف هذا الاستفزاز الذي دفع البعض من أهل السويداء إلى الانسلاخ عن انتمائهم الوطني والاستنجاد بالعدو الإسرائيلي، ومهما يكن الضيم الذي لحق بهم لا يبرر هذا الاستنجاد. لكن لا يمكن تبرئة من دفعهم لذلك، فهو شريكهم في الخيانة. والدم يستجرّ دماء، والخيانة تستدعي خيانات.

لقد حرّض الاستقواء بإسرائيل، الاستقواء بالعشائر، وكلاهما أدى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي الوطني. وسيدفع السوريون ثمن هذا الخطأ زمنًا طويلًا، فهو يعيد ثأر البسوس. والأكثر خطورة، هو تعويم القبلية كطرف صاحب قرار في القضايا الوطنية الإشكالية، وسيؤدي ذلك إلى نتائج كارثية، فالقبيلة بعرف كل الأمم هي نظام مناقض داخليًا لمفهوم الدولة، وسيتيح لدعاتها أن يشكلوا في المستقبل قوى اجتماعية تحقق لأصحاب الطموحات والرغبات مكانة تعيق مسيرة الدولة الحقيقية، فالقبيلة تعلي معاييرها التي تخالف نمو النظام الحضاري للدولة، وتغيّب معايير المواطنة والكفاءة لصالح الولاء.

وأظن أننا أصبحنا على شفا مخاطر كارثية إن لم نستدرك هذه المغامرات السياسية التكتيكية الخاطئة بسياسات مؤسساتية تضمن للدولة نهوضها وبناءها الحضاري، وتحقيق العدالة والمساواة والمواطنة.

لو لم تمت الحكمة عندنا، لاكتشفنا أين وصلنا، ونحن نعصب عيوننا ببرقع الانتقام ونمشي في شعاب لسنا أهلها لنكون أدرى بها. تلك أميركا ومن لا يفقه تقلبات سياساتها وخدعها لم يفقه دينه بعد. وأكثر المعارك خسارة حين تكون على الجبهات الخطأ.

9