هل تتحمل أخلاقية العلمانية الفرنسية إضرام حرب أهلية في سوريا

فرنسا زرعت ألغامًا اجتماعية طويلة الأمد في سوريا وشكّلت جيش الشرق على أسس طائفية لتبقى تدخلاتها ممكنة حتى بعد خروجها وتُعيد إنتاج الانقسام باسم الاستعمار الجديد.
الثلاثاء 2025/10/07
هل ترغب فرنسا بإعادة تاريخها الاستعماري

لم تزل تحولات المشهد السياسي السوري مفتوحة أمام التدخلات الإقليمية والدولية المؤثرة، تستدعيها بقوة مجموعة أسباب تولّد ذرائع هذه التدخلات، وأهمها الاضطرابات الاجتماعية الداخلية، وتنازع مكونات المجتمع السوري الثقافية والإثنية والعرقية، من جهة، ومن جهة أخرى المصالح الإقليمية بالجيوسياسة السورية، ومن ثالثة القلق المحلي والإقليمي والدولي من إيديولوجية الحكومة الجديدة، والبراغماتية الضبابية التي تتبناها في سياستها.

لذلك باتت سوريا ميدان صراع جيوسياسي معقد، تتجاذبه مصالح الدول المعنية به، ومنها فرنسا التي لا تزال تحتفظ بحق تأثيرها في مصير الدول التي كانت من مستعمراتها، ويدفعها إلى ذلك الصراعات السورية الداخلية، بل هناك مكونات استدعتها صراحة لهذا التدخل. ولأن سياسة فرنسا الاستعمارية في سوريا كانت سببًا رئيسًا فيما مرت به سوريا بعد استعمارها، فقد تبنت فرنسا سياسة زرع الألغام طويلة الأمد في تركيب المجتمع السوري بعد خروجها منه.

يبدو أن فرنسا في هذه الأيام تلجأ إلى تكرير فكرة إعادة تشكيل جيش الشرق في سوريا، فهي تستغل الاضطرابات التي تعيشها سوريا، لتلميع الضباط المنشقين عن نظام الأسد

أسست فرنسا قبل خروجها من سوريا ما يسمى “جيش الشرق”، استنادًا إلى نصيحة الاستخبارات الفرنسية آنذاك، وقد أُنشئ هذا الجيش سنة 1919، بعد توقيع اتفاقية سايكس بيكو (1916) وهزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.

كانت السياسة الفرنسية ترى أن الأغلبية السنية في سوريا هي المناهض الحقيقي لتطلعاتها في استمرار استعمارها لسوريا، فعمدت إلى تقسيم سوريا إلى خمس دويلات، وشكّلت جيش الشرق على أسس طائفية تحقق مصالحها الاستعمارية حتى بعد خروجها من سوريا.

فعلاً، لم تستقر سوريا بعد جلاء المستعمر سنة 1946، فبعد ثلاث سنوات بدأت الانقلابات العسكرية على حكوماتها الشرعية، وقد افتتحها حسني الزعيم سنة 1949، وهو أحد ضباط جيش الشرق، واستمرت سلسلة الانقلابات بقيادة ضباط جيش الشرق إلى أن وصلت إلى حافظ الأسد، وهو منهم، فحوّل الدولة إلى ديكتاتورية طائفية أدت إلى حروب وحشية في عهده وعهد ابنه المخلوع، انتهت إلى التخلص من حكمه بعد مجازر فظيعة بحق المكون السني.

اغتنمت فرنسا مجددًا في الآونة الأخيرة ما تعرض له العلويون من انتهاكات في الساحل على يد قوات الحكومة الجديدة ومناصريها من المتطوعين السنة، لإعادة نصرتها للعلويين، ولا سيما أن فرنسا تحوز خبرات ومعارف تاريخية واسعة بالعلويين من زمن الاستعمار. فقد أرسلت الرحالة الفرنسي “ليون كاهون” سنة 1878 ليجول في قراهم، وعلى رأسها القرداحة، وألّف كتابًا بعنوان “رحلة إلى جبال العلويين”، ونبّه فيه الفرنسيين إلى أن العلويين يختلفون عن الأغلبية السنية من حيث العادات الاجتماعية والأخلاقية، وهم أكثر قربًا إلى الغرب، وفيهم قابلية كبرى للتطبّع بالحضارة الأوروبية، ويمكن استقطابهم ليشكلوا حاضنة للفرنسيين تُستثمر في تأديب الغالبية. فقال: “أعترف بأنه ليس هناك من شعب يستحق الخير أكثر من هذا الشعب الشريف والقوي الذي يصبو بكل جوارحه إلى الحضارة، ويحترم ذاته، كما أنه بقليل من الدعم الأوروبي سيُعلّم بكل تأكيد الشعوب التي تُحيط به كيف تحترم ذاتها”.

تلميع الضباط المنشقين وتجاهلهم من الحكومة الجديدة يهيّئهم للانضمام إلى جيش علماني يحمل خلفه فكرية جيش الأقليات ويهدد بإشعال فتنة وحرب أهلية جديدة في سوريا

لذلك، وبناءً على نصائح الاستخبارات الفرنسية، فضّل الفرنسيون تجنيد الأقليات، وعلى رأسها العلويون والدروز، في جيش الشرق. وقد قال الجنرال “هنتسيغر”، القائد العسكري الفرنسي في سوريا عام 1935: “يجب ألا ننسى أن العلويين والدروز هم الأعراق الحربية الوحيدة في ولايتنا، وهم جنود من الدرجة الأولى، نجنّد من بينهم أفضل فرقنا الخاصة”.

يبدو أن فرنسا في هذه الأيام تلجأ إلى تكرير فكرة إعادة تشكيل جيش الشرق في سوريا بصورة أخرى، فهي تستغل الاضطرابات التي تعيشها سوريا، ولا سيما جذوتها الأقليات من العلويين والدروز والكرد، لتلميع الضباط المنشقين عن نظام الأسد الذين التحقوا بالثورة ضده، لكن الحكومة الجديدة تجاهلتهم وأبعدتهم عن تشكيلات جيشها الجديد، فأحسّوا بمظلومية ثورية تهيّئهم للاستجابة لدعوة فرنسا الراهنة للانضمام إلى جيش علماني، وهو عنوان يضمر وراءه فكرية جيش الأقليات.

أما فرص هذه الرؤية الفرنسية في النجاح، فهي ضئيلة جدًا، لأن الشعب السوري لن يُخدع مرة أخرى بفكرة جيش الأقليات، بسبب الكوارث التي ألمّت به من حكم الأقليات، ونفوره الفظيع من تلك الفكرة. فضلًا عن أن جيش الشرق أُسس على الأقليات وكان منظمًا ومسلحًا، ويكوّن القوة المؤثرة في الحياة السياسية السورية.

أما الآن، فلا قوام له، باستثناء أن يلتف الضباط المنشقون مع بعض الفصائل، وضباط نظام الأسد المتوارين، وقوات “قسد” التي تمتلك جيشًا منظمًا مسلحًا. بذلك يتمكنون من تشكيل جيش له عدته الحربية، وقادر على مناوئة الحكومة الجديدة، غير أن ذلك لا بد أنه سيخلق فتنة كبيرة، وحربًا أهلية ضارية، ولن يؤدي ذلك إلا إلى تقسيم سوريا. فهل ترغب فرنسا بإعادة تاريخها الاستعماري في تقسيم سوريا، وتتحمل أخلاقيًا ضريبة حرب أهلية طاحنة؟ تلك المسألة برسم أخلاق الجمهورية العلمانية.

7