وصاية الحداثة: كيف ترى فرنسا الدول العربية

إستراتيجية السياسة الفرنسية ترى أن نموذج دولتها الحديث هو المثل لما يجب أن تكون عليه الدولة الحديثة وهو المقياس الذي تُقاس به الدول وعلى أسسه ونتائجه تُبنى العلاقات السياسية.
السبت 2025/09/20
هيمنة باسم الحداثة

العلاقات السياسية بين فرنسا والدول العربية تخضع لمنظور صنّاع السياسة الفرنسية لأنظمة الحكم في الدول العربية، وطبائع مجتمعاتها وسماتها. ومهما بدا الاختلاف في سياسة الأحزاب التي تحكم فرنسا، فإنها تنطلق من رؤية ساستها لهذه الثنائية في بنية أنظمة الحكم العربية. وتكاد تكون هذه النظرة إلى الثنائية ثابتة، لا لأن السياسة الفرنسية لم تتطور، بل لأن تلك الثنائية تستولد نموذجها من غير انعطاف فارق عن ماضيها التقليدي.

فمنذ معرفة الغرب بالعرب عبر العلاقات التاريخية، أو من خلال الاستشراق الذي نشأ لمعرفة المجتمع العربي من خلال ثقافته بهدف الهيمنة عليه، أو بتعبير إدوارد سعيد: هو “أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة صياغته وتشكيله وممارسة السلطة عليه”.

يُخيَّل للبعض أن منظور سياسة فرنسا تجاه العرب تغيّر نتيجة انتقالها من طور السياسة التقليدية إلى السياسة الحديثة التي نشأت من حداثة التكنولوجيا. فالسياسة الفرنسية، بتعبير أحد صنّاعها المعاصرين برتراند بادي، وُلدت من رحم الحداثة التكنولوجية، وهي “حداثة كلية وكونية، وهي التي تخلق نمط حكم مصاحبًا للحداثة التكنولوجية”. وبرأيه، فإن هذا النمط من الحكم مرّ بمراحل عدة، “استغرق زمنًا طويلاً، فقد اخترعت الدولة الغربية في الواقع خلال ستة قرون، ثم جرى تصديرها، وكان تصدير الحداثة السياسية تصادفه مشكلات كثيرة خلافًا لتصدير حداثة التكنولوجيا”.

ويرى برتراند بادي أن هذه الحداثة ولّدت نموذج الدولة الحديثة، التي تأسست على علوم سياسية غربية أنشأت مصطلحات كونية كلية للسياسة، وهي قادرة على تفسير ما يجري في العالم كله. وهذا يعني أن إستراتيجية السياسة الفرنسية ترى أن نموذج دولتها الحديث هو المثل الأعلى للدولة الحديثة، وهو المقياس الذي تُقاس به الدول، وعلى أسسه ونتائجه تُبنى العلاقات السياسية.

وتفترض هذه الإستراتيجية الفرنسية، وفق صنّاعها، أن الدول العربية السائدة هي نقيض هذا النموذج، لأنها لم تبلغ صورة الدولة الحديثة النموذجية، وأن العلاقات بين السلطة العربية والمجتمع وأفراده شديدة التباين “لدرجة يستحيل معها الحديث عن دولة بالمعنى الغربي للدولة”.

تتأسس على هذه المقارنة طبيعة العلاقات التي تقوم بين فرنسا والعرب، وعلى أساسها تُبنى سياسة الغرب تجاههم. وبتعبير محرج وجارح للعرب، تنطلق علاقات الغرب السياسية معهم من منطلق علاقات دول مع مجتمعات لم ترق إلى شكل الدولة. وهذا ما يجعلها علاقات فوقية استعلائية، غير متكافئة، تستثمر في هذا الخلل البنيوي للدول العربية بطريقة تشبه العلاقات الاستعمارية للغرب بالعرب، لكن بأساليب منمقة تجميلية.

تكاد هذه الأساليب أن تستعيد بصورة حديثة مفهوم الوصاية، بمعنى أن السياسة الغربية تقوم على أساس دولة حديثة في مواجهة كيانات اجتماعية لا توازيها. وبالتالي تكون سياستها تجاهها سياسة ذات مرجعية وصائية تعود نشأتها إلى أوائل القرن العشرين، وهو تعبير عن وصف لعلاقات القوة بين الدول الكبرى والدول الأضعف غير القادرة على تشكيل قرين موازٍ. وبذلك تكون علاقات فرنسا بالعرب علاقات تؤدي إلى التبعية، ولا تهدف إلى تطوير المتبوع، بل تبقيه في دائرة الاستلاب، في تدوير حديث للهيمنة المستمدة من الروح الاستعمارية.

6