لماذا يخترع الأدباء سيرة مزيفة؟
عندما عرضت على أحد كبار الشعراء العراقيين نسخة رقمية مهداة لي من كتاب مذكرات جديدة لشاعر عراقي صدر للتو، كونه أحد الشهود الأحياء على ما ورد في هذا الكتاب من تلفيق مشين، اعتذر مني بلطفه المعهود لأنه لم يعد يقرأ كتب مذكرات الأدباء العراقيين لأنها مليئة بالأكاذيب.
قدرت لآخر ما تبقى من شعراء العراق الكبار اعتداده بذاكرته وبصمته، وهو الشاهد على ما جرى في البلاد على مدار عقود، عندما يتعلق الأمر بسلوك كتابي يمارس فيه أدباء عراقيون اليوم دور الضحية المزيف.
قرأت مذكرات صديقي الشاعر العراقي باهتمام، لأننا في عمر واحد تقريبًا، وعشنا السنوات الجامعية وأحداث ما جرى لي وله ولغيري معًا. ولست أنا الشاهد الحي الوحيد على ما كتبه من سيرة مزيفة له؛ هناك معنا العشرات من الأدباء والصحافيين الأحياء. فلماذا يُلفق التاريخ القريب؟
تزامن ذلك مع الاتهامات المخزية التي تعرضت لها قبل أسابيع الكاتبة البريطانية راينور وين بعد سنوات من صدور مذكراتها “مسار الملح”، التي بيع منها أكثر من مليون نسخة وتحولت إلى فيلم من بطولة جيليان أندرسون وجيسون إسحاق.
وصفت مذكرات وين عند صدورها بأنها “قصة حقيقية صادقة وملهمة ومؤكدة للحياة”، لكن تحقيقًا صحفيًا أجرته صحيفة “الأوبزرفر” كشف أن متنه مجرد أكاذيب، عندما زعمت الاستيلاء على منزلها من قبل صديق لزوجها بسبب استثمار فاشل! ولأنه لم يكن لديهما مكان للعيش، كما تروي، قرر الزوجان السير على طول مسار الساحل الجنوبي الغربي للمملكة المتحدة، والتخييم في البرية على طول الطريق والاعتماد على لطف الغرباء.
بينما يكشف التحقيق الصحفي أن رواية راينور وين عن التشرد غير صحيحة، وأنها أخذت 64000 جنيه إسترليني من صاحب عملها السابق.
لم تجد هذه الكاتبة غير جملة أن ما ورد في التحقيق عن كتابها “مسار الملح” هو “مزاعم مدمرة”، وأنها تعمل بنصيحة محاميها قبل الرد!
لو كان في العراق صحافة مخلصة لجوهرها، فإن كتاب صديقي الشاعر سيلاقي نفس المصير الشائن لكتاب “مسار الملح.”
لكن لماذا يخترع الأدباء سيرة مزيفة لهم، يمارسون فيها على الأغلب دور الضحية؟
قبل عقود، أصدر شاعر عراقي ما أطلق عليه “تربيته” وليس سيرته، ليقول للقارئ إنه عاش حياة منحطة، بينما صديقي الشاعر في كتابه الجديد يقول إن رئيس الدولة آنذاك كان متفرغا للاستماع إلى وشايات الشعراء عن بعضهم البعض!
كيف استطاعوا الكذب؟ سؤال يطرحه الكثير من القراء عندما يُثبت زيف كتب المذكرات. لكنْ هناك سؤال آخر يحتاج إلى إجابة: كيف أفلت الكاتب من العقاب؟ كيف استطاع تمرير أكاذيبه وصولًا إلى كتاب منشور يُصنَّف على أنه قصة حقيقية؟
الإجابة المختصرة هي أنه إذا كذب شخص ما بشأن حياته، فغالبًا ما يصعب على الآخرين كشفه. تقول الدكتورة براجيا أجراوال التي تُدرس التفاوتات الاجتماعية والظلم، إن جزءًا كبيرًا من كتابة النصوص غير الروائية “يتعلق بالثقة بين الكاتب والقارئ. لست متأكدة حقًا من كيفية التحقق من صحة قصة حياة شخص ما بالكامل.”
باستثناء بعض الحالات النادرة، مثل نجاح مجموعة من القراء في رفع دعوى قضائية ضد ناشر، مدعين أنهم تعرضوا للاحتيال لأنهم اشتروا كتاب مذكرات معتقدين أنه حقيقي، ونجحوا في استرداد ثمنه! لا تترتب أي تبعات على المذكرات المزيفة.
إن جني المال مع تبعات قانونية ضئيلة جدًا من خلال سرد الرواية الأكثر رواجًا للقصة، بدلاً من الرواية الحقيقية، يجعل من الصعب تصديق أن هذا الجدل سيكون الأخير من نوعه. ففي النهاية، لا يمكن لأي مذكرات أن تكون حقيقية تماما.
لكننا اليوم أمام تعمد تزييف روايات أدبية وسياسية، وما زال هناك الكثير من الشهود الأحياء على وقائعها!