دوخي المفقود في تقاسيم الصبا
كان ينبغي عليّ العودة إلى رواية الكاتبة الهولندية كوني بالمن “أنت قلت” وهي تصنع متنا روائيا لامعا من سيرة الشاعر تيد هيوز وزوجته المنتحرة سلفيا بلاث، أقول ينبغي بمجرد الانتهاء من الجملة الأخيرة من رواية طالب الرفاعي “دوخي… تقاسيم الصبا”، لأن مثالية رواية بالمن تكاد تكون درسا أدبيا مدهشا في كتابة السيرة الروائية. هناك نقرأ كيف يمكن للسيرة أن تتحول إلى رواية من لحم ودم، وكيف تخرج الشخصيات من النص حية، جريحة، وصادقة. فهل قرأ طالب الرفاعي تلك الرواية قبل أن يمضي إلى دوخي؟
لست وحدي، بل كل من يحب عوض دوخي سيقع أسيرا لعنوان رواية الرفاعي الصادرة قبل أسابيع عن دار “ذات السلاسل”. لكن ما إن يطوي القارئ بضع صفحات حتى تتكشف الخيبة. دوخي الذي عرفناه لم يحضر. النص أدار ظهره للفنان وذهب ليرسم صورة مثالية لمدينة الكويت. رواية يفترض أنها عن مطرب ملأ الأسماع، فإذا بها تلتفت إلى الجغرافيا والمدينة، كأن التاريخ الشخصي لعوض دوخي تفصيل ثانوي في حياة مدينة صغيرة. هذا خداع للقارئ قبل أن يكون خيانة لذاكرة فنان.
اختار الرفاعي أن يجعل من النص “حزمة مشاهد” أشبه بمقالات صحافية وأدبية عن دوخي. وهو التعبير الطبيعي الوحيد في هذه الرواية، مع أنه لم يغادر الساعات الأخيرة من حياة دوخي، ليمنح نفسه حرية الاستذكار عن الفنان المضطجع على فراش الموت. لكنه في ذلك لم يضف لنا شيئا واحدا لا نعرفه عن عوض دوخي، إذا كان الأمر متعلقا بمن يعرفون هذا الفنان، وأما الذين لا يعرفونه فإن قراءة سريعة لسيرته في الويكيبديا تكفي لمعرفة أكثر مما ذكره الرفاعي.
طالب الرفاعي لم يكتب سيرة روائية، بل دوّن مشاهد متفرقة أقرب إلى مقالات متلاصقة. النص بلا عمق، بلا جروح عوض دوخي ونقمته الدائمة، كان مستاء من كل ما يحيط بحياته، لذلك من النادر أن يغني من دون أن يكمل احتساء أقداحه البيضاء المفضلة. لقد مرّ الرفاعي مرورا باردا على تفاصيل حاسمة بلا ما يشبه روح الفنان الذي نحب. ذكر ولع دوخي بتلاوة رائد التلاوة البغدادية محمود عبدالوهاب أحد تلامذة الملا عثمان الموصلي من دون أن يضعه في سياق العراق وموسيقاه التي صنعت المساحة الأكبر من ذائقة دوخي. لذلك لم يتوقف الرفاعي عند سنوات دوخي التي بقيت هائمة بغناء حضيري أبوعزيز وعلاقته الشخصية به، كما تعمد، كما يبدو، إخفاء تلك العلاقة المفصلية في تجربة دوخي الفنية حين لحن له الموسيقار العراقي محمد جواد أموري قصيدة الشاعر جعفر الأديب “هل جفاك النوم مثلي” ما يشكّل جوهر التجربة.
هل يمكن لنا أن نعزو ذلك إلى “عقدة العراق” المصاب بها طالب الرفاعي لكونه عراقيا وتجنس كويتيا، لا نأمل ذلك!
كذلك تجاهلت الرواية نزق الفنان، عبثه، نقمته، صلته الدائمة بالكحول. ذلك الوجه الذي لا ينفصل عن غنائه حوله الرفاعي إلى مدخّن عابر، إلى صورة “إنسانية مثالية” لا يعرفها أحد من المقربين إليه، هذا التهذيب الزائف سحق الحقيقة. فالذين أحبوا عوض دوخي لم يبحثوا عن ملاك منزوع الخطايا، بل أحبوا فنانا متناقضا، جريحا، غارقا في نشوته. فيما خذل متن الرفاعي هذا التاريخ، خذل الصوت الذي كان يغني بجمل موسيقية كالسكين، جارحة وصادقة حتى الدمع.
لقد كان عوض دوخي أكبر من مدينة صغيرة، وأكبر من الرواية التي أرادت أن تحشره في نص متردد. كان مطربا بامتداد عربي، يعزف من روحه على أوتار الذاكرة. طالب الرفاعي لم يدرك ذلك، أو تجاهله عمدا. فجاء نصه بلا دوخي، بلا موسيقى، بلا ذرة من الحزن المضيء الذي جعل هذا الفنان استثنائيا.
الخيبة هنا ليست شخصية، ولا تخص قارئا واحدا، بل هي خيبة كل من حمل صوته يوما في وجدانه. فالرواية التي حملت اسم دوخي على غلافها لم تكتف بإجهاض سيرته، بل خذلت ذاكرة العرب الذين عرفوا المطرب قبل أن يعرفوا الكويت، انتهت إلى صورة باهتة لا تصمد أمام أي قراءة جادة. وإن كان الإدمان على الكحول قد أنهى حياة دوخي، فإن طالب الرفاعي قد أنهى صورته في رواية بلا فن، بلا موسيقى، بلا روح. وما نحتاجه اليوم ليس نصا مترددا يحشر فنانا عظيما في مدينة صغيرة، بل سيرة حقيقية تعيد إليه مكانه في الوجدان العربي، وتترك رواية الرفاعي كما يجب أن تبقى: حاشية على هامش تاريخ موجع لعوض دوخي.