وليد رشيد القيسي لـ"العرب": العمل الفني رياضة فكرية تتجاوز ثنائية القبح والجمال
لم يتوقف الفنان التشكيلي والخزاف العراقي وليد رشيد القيسي عن تجديد خطاباته الفنية وأساليبه وخاماته، مقدما تجربة مختلفة تحمل بصمته، وتنفتح على عمق تاريخي وفكري واسع. “العرب” التقت الفنان في حوار نستكشف من خلاله عمق رؤيته، وتجربته في تحطيم القوالب التقليدية، وكيفية تحويل السيراميك إلى حوار بصري يلامس أعماق الإنسان ويعيد تشكيل معنى الوجود.
يعيد وليد رشيد القيسي، الفنان الخزاف التشكيلي العراقي المولود في بغداد عام 1963، تعريف فن الخزف من خلال مقاربة تجريبية تجمع بين التراث التاريخي والحداثة العصرية.
تخرج القيسي في قسم الخزف من معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1985، وسرعان ما شكل حضورا فنيا مؤثرا على المستويين العربي والدولي. يعتمد القيسي في تجربته على تقنيات ابتكارية مثل “الأوستراكيزم” (كسر المادة وإعادة بنائها من خلال حطام المادة) لخلق موقف من المادة، و”الريونز” التي تستدعي إرث الحضارات الطينية وتعيد توظيفه بصريا في أعمال تنبض بالذاكرة والتاريخ. يصنع من الطين حوارا بصريا يتأرجح بين الفراغ والفراغ السالب، وبين الخشونة والنعومة، ويمنح المتلقي فسحة للتأويل من خلال اشتغاله على الغموض والاستفزاز الذهني المتعمد.
سحر التجريب
خلال مسيرته، أقام القيسي معارض فردية وجماعية في كل من بغداد، لندن، الدانمارك، الدوحة، بيروت، وعمان وغيرها من الورشات الفنية، وشارك في بيناليات دولية كل من الصين، المغرب، القاهرة، بلجيكا، إسبانيا. وحصل على عدة جوائز، من أبرزها الجائزة الأولى في المسابقة الدولية للسيراميك في الدنمارك عام 2007. تنحو أعماله نحو خلق نسيج بصري متداخل، يعبر عن إطلالات متصدعة تتجلى فيها الفكرة الوجودية للفن بوصفها لغة حية، تتجاوز الجمود لتلامس جوهر الإنسان وتحاكي قلقه وأسئلته حول المعنى البيولوجي والفيزيائي للمادة.
• العرب: ما هي الأشياء التي تخلق منها نسيجا بصريا متماسكا؟
وليد رشيد القيسي: أعظم قوة في السيراميك، برأيي، تكمن في ذاكرته المادية. إنه يحمل التاريخ، يصلحه، ويدونه بطريقة لا تستطيعها الأشكال الفنية الأخرى. بسبب وظيفته اليومية، وعلى سبيل المثال، قصص غير مقصودة تماما تظهر في المتاحف حيث يهمن تاريخ السيراميك فيها عبر عصور. فمثلا: الأواني السومرية والدمى في حضارة وادي الرافدين وأواني “التينموكو” اليابانية، والبورسلين الصيني. كلها تنتقل بإرثها من الماضي السحيق إلى الحاضر.
هناك أيضا مواضيع أخرى تكشف عن الحياة الأكثر واقعية للسيراميك، كمادة بناء، كطوب، أو كمادة خام مستخرجة من الأرض. في صميم عملي الخاص، سواء كان ذلك في السيراميك أو الرسم أو الكتابة، تمكنني رغبة لا تقاوم في خلق شيء “عملي” شيء يقف على الحافة، ليس مجرد ديكور، ولا مجرد وظيفة بحتة، بل يتأرجح بينهما. أعتقد أن هذه هي القوة الحقيقية للسيراميك؛ غموضه هو الأداة المفهومية والمادية التي تسمح لي بتعليق عدد لا يحصى من الأفكار داخله.
• العرب: كيف يعبر التجريب في أعمالك عن جوهر الوجود وما دور المادة والمكان في صياغة هذا التصور الفلسفي؟
وليد رشيد القيسي: تتجلى الإشكالية كينبوع أزلي لا ينضب، فليست سوى إجابات متوالية لأسئلة تتوالد وتتجدد بلا انقطاع. وفي هذا السياق يغدو الفن لغة الإشكالية ذاتها يستمد منها جوهر خلوده ويصبح سراجا يضيء دروب البحث اللامتناهي. أما المكان فليس كيانا ثابتا، بل نسيجا متداخلا تتشابك فيه الأفعال وينصاع لمتطلبات الخلق الأزلي. إنه فضاء حي يتشكل ويتغير بفعل إرادة التجلي.
إن إدراكي الحقيقي لا يتجاوز كوني منتميا إلى اللحظة الراهنة التي تحتضن فكري. وحين أعود للتفكير مجددا، فذلك ليس سوى إقرار بضرورة إضافة جديدة لما سبق، لأن القول السابق قد شاخ ومات، وأصبح ذكرى باهتة يطويها النسيان. لذا، عندما أتعامل مع المادة، لا أكتفي برسم تخطيطات أو تشكيل أعمال فنية جامدة. بل إن كل ما أقوله أو أفعله يتلاشى ليولد من جديد في هيئة مغايرة.
لا استقرار لشكل واحد، ولا ثبات لمراحل العمل. فالعمل الفني هو رياضة فكرية تتطلب مني إعادة بنائه بكل مراحله وتوقعاته، ليتكرر هذا البناء يوميا، في تجل مستمر ومتجدد. لكي لا يستسلم الفن لهذا النسيان، لا بد أن أنغمس في التجريب. إنه نداء يوقظ اللهب، ويطلق العنان لفيضان مارق يجتاح أرجاء الكون. إنه التحرر المطلق من قيود القوانين المتضخمة، يبتلع كل ما هو راكد وثابت، ويفتح آفاقا لم تكتشف بعد.
إن التجريب يسعى ليرى فضاءات لم تكشف أسرارها بعد خلاياه تدمر كل ما هو أرضي معرفي، ومبرمج داخل الجسد. إنها مغامرة مدهشة في حركة تواصل خلاقة، تثير الدهشة، وتولد العجائب والفانتازيا في عالم سحري. فيه ينصهر الكل في بوتقة الخلق، ليولد لحظة عليا. لحظة يتجلى فيها التجريب في أبهى صوره. (إن التجريب سحر كوني يحاكي كل ما يحيط بنا، وفي لحظته تتجلى عوالم مدهشة، عجائبية وسحرية) عيون تحررت من قيود الركود والثبات، تتأمل فضاءات مجهولة، لا تنتمي لخرائط أو مساحات، بل تناسلت فيها مخيلة حرة تحت وطأة الجسد.
لغتها تتجلى في شكل غامض، بين ما هو محذوف وما هو ظاهر، تتوالد فيها الأشكال وتثير دهشة في فكر المتخيل. إننا نمارس معرفة الوجود بالمادة وبالصورة والكلمات، كي نتحرر من أوهام تتلبسنا في ساعات الشك.
الفن المعاصر
• العرب: ما المقصود بـ”رحلة في غياب الأثر وحضور الرؤيا؟”
وليد رشيد القيسي: يتلاشى الواقع المحسوس ليحل محله حضور الرؤيا الكامنة، فاتحا الباب لكشف أنماط وجودية لم تكتشف بعد؛ سواء في فضاءات بعيدة عن مداركنا أو في أعماق النفس البشرية الغافلة عن ذاتها. يصبح العمل الفني هنا ليس مجرد كلمات، بل يتماهى مع الخيال المحلق متحولا من سكونية جامدة إلى تدفق جمالي يلامس خفايا الوعي الباطني. هكذا، يتأسس العمل الفني على نص يتجاوز بهرجة السطح الظاهرة، مركزا على إدراك ما يختبئ خلفه، ما يصدع جوهره الخفي، ليقدم قيمة تتعدى مجرد إرضاء الآخرين.
• العرب: كيف توظف الغياب والفراغ لتحفيز المتلقي على كشف المعنى؟
وليد رشيد القيسي: تتولد الرغبة العميقة في قلب المسار المعتاد، من خلال شطب التجانس المألوف وتجاوز أعباء التفاعل التقليدي الذي يحد من التجدد الأصيل. أسعى جاهدا إلى اتحاد الأضداد والمتنافرات في عملية أشبه بالخيمياء، لإعادة تشكيل الداخل في الخارج عبر صور مبتكرة: مقاطع من أجساد متناثرة، بقايا فراغ وكتلة متناثرة بأشكالها. تصبح نصوص غائبة تتوارى عن العين وغموضا ساحرا يستدعي المتلقي ليغوص في لحظة المجهول.
إن التغييب المتعمد للعلامات الواضحة يصبح هنا أداة فنية، تفتح فضاء رحبا للتأمل، وتتيح للمتلقي فرصة فريدة لإيجاد معناه الخاص وكأنه يسبح في فضاء غارق في عملية كشف مستمرة عن وعي مع بصيرة عميقة. هذا الغياب للسطح ليس عدما، بل هو ذاته حضور لأمكنة مجهولة، تتجلى وكأنها تتحرك في عالم غير عالمنا المألوف، وهي جوهر لحظة الوجود الحقيقية؛ فلا وجود للقول الحقيقي إلا من خلال الرؤيا التي تنبع من الأعماق.
• العرب: كيف يمكن تفسير مفهوم “الجماليات المتنافرة؟”
وليد رشيد القيسي: تتجسد هذه الرؤى في أشكال تأملية وتساؤلية تهدف إلى إحداث صدمة في الوعي، حيث تشكل الأشياء وفقا لما تقتضيه المخيلة الخصبة. ينظر إلى العالم هنا برؤية مغايرة تماما لما هو سائد، فتتحول التجربة إلى ومضات فكرية وتأملية عبر سلسلة من الأشياء المتهالكة والمتنافرة، لتكشف عن نظام جديد من الجمالية والمعنى العميق الكامن في فوضى مغالطة.
إن محاولة فهم الفن المعاصر هي رحلة شائكة تتطلب منا التوقف والتساؤل بعمق حول طبيعته وغاياته. الفكرة التي قدمتها تطرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية التي يمكننا أن نتناولها من منظور فلسفي لنكشف عن الطبقات المتعددة التي تشكل هذا المفهوم.
• العرب: هل يعد الفن المعاصر انعكاسا أم تمردا؟
وليد رشيد القيسي: تساؤلك حول ما إذا كان الفن المعاصر هو مجرد ما ينتج حاليا ويتطابق مع العصر، أو ثورة ضده، يضعنا أمام مفترق طرق: أولا “الفن كمرآة للعصر”، إذا كان الفن المعاصر مجرد انعكاس لما هو سائد، فهو يميل إلى التأريخ والتسجيل. فالفنان هنا أشبه بالمؤرخ الذي يلتقط نبض عصره، ويعكس قيمه تقنياته، وتحدياته. من هذا المنظور، يصبح العمل الفني وثيقة زمنية تصف الحاضر حتى لو كان ذلك الوصف بطريقة نقدية أو ساخرة.
ثانيا الفن “كفعل تمرد وتجاوز”. فإذا كان الفن المعاصر هو ثورة ضد قيم العصر التقليدي فهو يتجاوز مجرد التسجيل إلى التحدي. هنا، يعمل الفنان على زعزعة المفاهيم الراسخة وتحطيم المألوف، وإعادة تعريف ما هو مقبول أو جميل. يصبح الفن أداة للتغيير، محركا للجدل ومثيرا للدهشة والاستغراب وقد ينظر إليه على أنه “غريب ومستهجن” لأنه يكسر الألفة.
ولعل الفن المعاصر يجمع بين هذين البعدين؛ فهو ينبع من سياقه الزمني ولكنه لا يتردد في انتقاده أو التمرد عليه، بل قد يكون “معاصرا أكثر من عصره” لأنه يستشرف المستقبل ويقدم رؤى طليعية تتجاوز الحاضر إلى ما هو قادم. هذا يقودنا إلى فكرة أن الفن المعاصر ليس مجرد إفراز للحاضر، بل هو قوة دافعة تشكل المستقبل.
الفن المعاصر غالبا ما يرفض الجمال بمعناه التقليدي، السهل الاستهلاك، أو “المرتب”. هو لا يسعى بالضرورة لإرضاء العين أو الذوق العام، بل يسعى إلى إثارة الفكر، التحفيز العاطفي، أو حتى استفزاز المتلقي. وقد يستخدم الفن المعاصر “القبح” أو المشاهد غير المريحة كأداة للتعبير عن الواقع، أو لنقد المجتمع، أو لإبراز قضايا مسكوت عنها. الفن هنا ليس غايته تقديم تجربة جمالية ممتعة بالضرورة، بل قد يكون غايته إثارة الانزعاج الضروري لإطلاق التفكير النقدي. هذا لا يعني أنه قبيح دائما، بل هو يتجاوز الثنائية التقليدية للجمال والقبح ليحتضن تجارب جمالية أوسع وأكثر تعقيدا.
قصة تحد
• العرب: كيف يسهم فن الخزف في توسيع دائرة المتلقي، رغم تعقيداته الجمالية؟
وليد رشيد القيسي: فن السيراميك غالبا ما يتحدى فكرة أن الفن ينتج للمتلقي الذي لا يملك ثقافة فنية عميقة. بل هو يدعو المتلقي للمشاركة في عملية فهم العمل، والتفاعل معه، وتكوين رأيه الخاص، حتى لو تطلب ذلك جهدا فكريا أو حساسية خاصة.
إن فن السيراميك المعاصر هو حقل فلسفي غني بالتناقضات والأسئلة التي لا نهاية لها. إنه ليس كيانا واحدا، بل هو طيف واسع من الممارسات والأفكار التي تتحدى تعريفاتنا المسبقة عن الفن والجمال، وتدفعنا إلى التفكير بعمق في واقعنا ومستقبلنا. الأسئلة التي طرحتها ليست مجرد تساؤلات عابرة، بل هي مفاتيح لفهم هذا العالم الفني المتجدد والمعقد باستمرار.
◄ العمل الفني، في جوهره، ليس مجرد حدث عابر، بل هو تحد مستمر ورحلة شاقة ومواجهة جريئة للعقبات
لطالما كان نهجي في الفن، لا أبالغ إن قلت، أشبه باكتشاف عالم خفي. لم تكن المسألة مجرد “هيكل” بالمعنى الجاف بل كانت سحرا تكمن في الأشكال التي تبدو “حقيقية” للوهلة الأولى، لكنها ترفض أن تكشف عن هويتها بسهولة. أفكر بالمكان وما يحيط به من أشياء، هي كيانات تتجلى فيها الهوية في صميم بنيتها، تتطور وتنمو بشكل عضوي، تماما كتطور الخلية في أشكال “التوتية”. هذه ليست مجرد أفكار مجردة بالنسبة إلي، بل هي أعمال محددة للغاية، ولدت من دوافع عاطفية عميقة.
• العرب: كيف تعكس “صياغة العمل الفني” كونها تحديا ورحلة في آن واحد؟
وليد رشيد القيسي: العمل الفني، في جوهره، ليس مجرد حدث عابر، بل هو تحد مستمر ورحلة شاقة تكلل بجهد مكثف ومواجهة جريئة للعقبات بكل تعقيداتها وغموضها، لا تكشف عن نفسها بسهولة للمتلقي. يتطلب الأمر من الفنان يقظة فكرية عميقة ووعيا متواصلا للبحث عن خيوط الفهم، أو بالأحرى، لنسجها وإبداعها بنفسه عندما يتعذر العثور عليها جاهزة.
غالبا ما يظهر العالم للفنان فوضويا، عشوائيا، أو حتى بلا جدوى. فكيف يمكن للمرء أن يجد أو يخلق معنى في ضجيج الحياة اليومية، أو في وجه الألم والخسارة؟ هذا يتطلب دعوة شاقة لتجاوز الأشياء والبحث عن أنماط ودلالات وعلامات تتجاوز الظاهر. إنها مسؤولية لا قرار بأن العمل الفني لا يقدم معنى جاهزا، بل يساهم في خلقه، يضع على عاتق الفنان عبئا وجوديا هائلا. فإذا لم يكن هناك دليل إبداعي مسبق، فكيف يختار طريقه الفني؟ وكيف يحدد ما هو ذو قيمة فنية وما ليس كذلك؟ هي رحلة صياغة العمل الفني ودعوة دائمة للمثابرة، تتطلب من الفنان أن يكون مهندسا لفهمه الخاص وأن يتحلى بالمرونة لمواجهة التحديات التي تظهر في مسيرته الإبداعية. إنها قصة تحد، حيث يولد الفهم من رحم الجهد، وتنسج الدلالة من خيوط التجربة الفنية.
