واشنطن ودمشق: تحالف غير متوقع أم براغماتية تفرضها الضرورة
العاصمة السورية دمشق استضافت الخميس الماضي قائد القيادة المركزية الأميركية “سنتكوم”، الأدميرال تشارلز برادلي كوبر، في زيارة رسمية تُعدّ الأولى من نوعها منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد أواخر عام 2024، في تطور غير متوقع قبل عامين.
اللقاء الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بكوبر، بحضور المبعوث الأميركي الخاص توماس باراك، لا يمكن قراءته إلا كتحول إستراتيجي في العلاقة بين واشنطن ودمشق، بعد سنوات من القطيعة والعداء.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن فعليًا أن تثق الإدارة الأميركية بحكومة أحمد الشرع؟ وهل تراهن واشنطن على نسيان ماضي الشرع، الذي ارتبط سابقًا بفصائل إسلامية متشددة، من أجل بناء شراكة أمنية جديدة ليس في سوريا فقط، بل في المنطقة؟
الزيارة، التي وصفتها الرئاسة السورية بأنها “تعكس أجواء إيجابية وحرصًا مشتركًا على تعزيز الشراكة الإستراتيجية،” تحمل في طياتها أكثر من مجرد مجاملة دبلوماسية. فهي إعلان ضمني عن انتقال العلاقة من مستوى التنسيق السياسي إلى مستوى التعاون العسكري، في وقت تتزايد فيه التحديات الأمنية في المنطقة، وتتصاعد المخاوف من فراغ قد تستغله قوى إقليمية مثل إيران وروسيا وتركيا.
واشنطن، التي لطالما دعّمت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في حربها ضد تنظيم داعش، تبدو اليوم مستعدة لإعادة النظر في هذا الدعم، لصالح تعاون مباشر مع الحكومة السورية الجديدة. هذا التحول لا ينبع من قناعة أخلاقية أو سياسية، بل من براغماتية صارخة: الشرع، رغم ماضيه، يملك اليوم أدوات السيطرة على الأرض، ويُظهر استعدادًا للتعاون في ملفات حساسة، أبرزها ملف معتقلي داعش، واستعادة المواطنين الأميركيين، ودمج الفصائل المسلحة في الجيش الوطني الجديد.
من هنا، يمكن فهم زيارة كوبر على أنها اختبار أولي للثقة، ومحاولة لقياس مدى جدية الشرع في الالتزام بالمعايير الأمنية التي تضعها واشنطن. فالإدارة الأميركية لا تنسى، لكنها تعيد تعريف أولوياتها وفقًا للواقع الميداني. وما يهمها اليوم هو ضمان الاستقرار، ومنع تمدد الجماعات المتطرفة، وتأمين مصالحها الإستراتيجية في شرق سوريا.
◙ الرهان الأميركي لا يقتصر على الشرع كشخص، بل يمتد إلى بنية النظام الجديد في دمشق وقدرته على ضبط الأمن واحتواء الفصائل المسلحة وتقديم نموذج حكم قابل للتفاوض
التحول في موقف واشنطن لا يعني بالضرورة تبنّي الشرع سياسيًا، بل هو أقرب إلى إعادة تأهيله كشريك وظيفي. فالرجل الذي كان يومًا ما جزءًا من هيئة تحرير الشام، المصنفة سابقًا كتنظيم إرهابي، بات اليوم يجلس على طاولة واحدة مع كبار القادة الأميركيين، ويتحدث بلغة الدولة، لا بلغة الفصيل. هذا التحول، وإن بدا صادمًا للبعض، يعكس منطقًا أميركيًا متكررًا: لا حلفاء دائمين، بل مصالح دائمة.
لكن هل تراهن واشنطن على نسيان ماضي الشرع؟ الإجابة ليست بنعم أو لا، بل في التفاصيل. فإلغاء المكافأة الأميركية التي كانت معلنة لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه، يُعدّ خطوة رمزية قوية باتجاه إعادة تأهيله. كما أن تصريحات كوبر وباراك، التي أشادت بجهود الشرع في مواجهة داعش، واستعادة الرهائن الأميركيين، تشير إلى رغبة حقيقية في طي صفحة الماضي، وفتح صفحة جديدة قائمة على المصالح المشتركة.
الرهان الأميركي لا يقتصر على الشرع كشخص، بل يمتد إلى بنية النظام الجديد في دمشق، وقدرته على ضبط الأمن، واحتواء الفصائل المسلحة، وتقديم نموذج حكم قابل للتفاوض. فواشنطن تدرك أن استمرار الفوضى في سوريا سيؤدي إلى تمدد النفوذ الإيراني والروسي، وهو ما تسعى لتجنّبه بأيّ ثمن.
في المقابل، يبدو أن الشرع يدرك حجم الفرصة المتاحة له. فالرجل الذي وصل إلى السلطة بعد انهيار النظام السابق، يسعى إلى تثبيت شرعيته داخليًا وخارجيًا، ويعلم أن الانفتاح على واشنطن يمنحه غطاءً دوليًا، ويُعيد سوريا إلى الخارطة السياسية العالمية. ومن هنا، تأتي تصريحاته التي تؤكد على “الحرص المشترك على تعزيز الشراكة الإستراتيجية،” و”رفض الاستقطاب الإقليمي،” و”الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف“.
لكن هذا التقارب لا يخلو من التحديات. فهناك تيارات داخل الإدارة الأميركية لا تزال تشكك في نوايا الشرع، وتخشى من عودة الخطاب العقائدي، أو من اختراقات أمنية قد تُهدد المصالح الأميركية في المنطقة. كما أن بعض الحلفاء الإقليميين، وعلى رأسهم إسرائيل، ينظرون بقلق إلى أيّ تقارب بين واشنطن ودمشق، ويخشون من إعادة تموضع أميركي قد يُضعف التنسيق الأمني التقليدي.
ومع ذلك، فإن زيارة كوبر إلى دمشق تبقى حدثًا مفصليًا، يُعيد رسم ملامح العلاقة بين الولايات المتحدة وسوريا، ويُمهّد لمرحلة جديدة من التعاون الأمني والعسكري. وهي، في جوهرها، تعبير عن براغماتية أميركية لا تتردد في إعادة تعريف الحلفاء، إذا ما اقتضت الضرورة.
في النهاية، لا يمكن الجزم بأن واشنطن تثق تمامًا بحكومة الشرع، لكنها بالتأكيد تختبرها. والشرع، من جهته، يحاول أن يُثبت أنه ليس مجرد وريث لفوضى ما بعد الأسد، بل قائد قادر على إدارة دولة، والتفاوض مع القوى الكبرى، وتقديم نموذج حكم يُراعي التوازنات الإقليمية والدولية.
المرحلة القادمة ستكون حاسمة. فإما أن تنجح هذه الشراكة الوليدة في بناء أرضية مشتركة، تُعيد لسوريا بعضًا من استقرارها المفقود، أو أن تنهار تحت وطأة الشكوك، والتجاذبات، والمصالح المتضاربة. وفي الحالتين، تبقى زيارة كوبر إلى دمشق لحظة فارقة، تُجسّد منطق السياسة الدولية في زمن التحولات الكبرى: لا شيء ثابتا، سوى الحاجة إلى من يملأ الفراغ.