عندما تُسوّق الحكومات الوهم
بين الحين والآخر، يطل علينا خبر يَعِد البشرية بالخلاص النهائي من السرطان وأمراض أخرى مستعصية من بينها الشيخوخة. آخر هذه الإطلالات جاءت من روسيا، حيث تناقلت بعض المنصات ووسائل الإعلام أن موسكو “تعد العالم بلقاح يشفي ويحمي من جميع أنواع السرطان.” العنوان وحده كفيل بأن يجعلنا نسارع للاحتفال، لكن ما إن ندقق حتى نكتشف أن الأمر لا يعدو كونه مزيجًا من مؤتمر علمي، وتصريحات فضفاضة، وعناوين إعلامية يبحث كاتبوها عن الإثارة وجذب القراء.
تخيلوا معي المشهد: قاعة ضخمة، شاشات عملاقة، علماء بملابس بيضاء، ومسؤولون يبتسمون أمام الكاميرات. يبدأ المؤتمر بكلمة رنانة “اليوم نعلن للعالم أننا وجدنا العلاج النهائي للسرطان.” يصفق الحضور بحرارة، ثم تُعرض شرائح باوربوينت مليئة بالرسوم البيانية المعقدة التي لا يفهمها سوى معدّيها. بعد ساعة من المصطلحات العلمية الثقيلة على السمع، يخرج الصحافيون بعناوين جاهزة “العلاج الشامل قادم،” “لقاح يضع حدا لمخاوف البشر.” أما المواطن البسيط، فيعود إلى منزله متسائلًا “طيب، متى أشتريه من الصيدلية؟”
المفارقة أن السرطان ليس مرضًا واحدًا، بل مئات الأنواع المختلفة، لكل منها طبيعته واستجابته للعلاج. لكن الإعلام لا يحب التفاصيل، بل يفضل الجملة السحرية “علاج لجميع أنواع السرطان.” وكأننا نتحدث عن شامبو “3 في 1” يغسل الشعر ويعالج القشرة ويمنح لمعانًا إضافيًا.
◄ العلم يتقدم بخطوات صغيرة، لا بقفزات سحرية. والمؤتمرات قد تكون مفيدة لتبادل الخبرات، لكنها لن تشفي العالم بين ليلة وضحاها
الطريف أن هذه المؤتمرات غالبًا ما تشفي من شيء واحد فقط: الملل. فبينما يتحدث العلماء عن “تجارب أولية على الفئران” و”نتائج واعدة تحتاج إلى سنوات من الاختبار،” يكون الجمهور قد غادر ذهنيًا إلى عالم آخر، متخيلًا نفسه يحتفل بعيد ميلاده التسعين وهو في كامل الصحة بفضل “العلاج الروسي”.
لكن خلف السخرية تكمن حقيقة لا يمكن إنكارها: هناك سباق عالمي محموم لتطوير علاجات أكثر فاعلية للسرطان. من العلاج المناعي إلى تعديل الجينات، ومن الذكاء الاصطناعي في التشخيص إلى الأدوية الموجهة، كلها مجالات واعدة. المشكلة ليست في البحث العلمي، بل في الطريقة التي يُسوَّق بها. فالعلماء يتحدثون بحذر، بينما الإعلام يترجم الحذر إلى وعود كبرى.
ولأن السياسة لا تفوّت فرصة، تتحول هذه المؤتمرات إلى منصات لإظهار القوة الناعمة. فكما تتباهى الدول بترساناتها في العروض العسكرية، تتباهى أيضًا بإنجازاتها الطبية في المؤتمرات العلمية. الفرق أن الصاروخ ينفجر فورًا، بينما “العلاج النهائي” ينفجر لاحقًا في عناوين الصحف.
المضحك المبكي أن الجمهور، رغم خيباته المتكررة، لا يزال يصدق. ربما لأن الأمل في علاج السرطان أقوى من أيّ شكوك. وربما لأننا نحب القصص التي تنتهي نهاية سعيدة، حتى لو كانت مؤجلة إلى إشعار آخر.
في النهاية، لا بأس أن نحلم. لكن من الأفضل أن نحتفظ بجرعة من الواقعية. فالعلم يتقدم بخطوات صغيرة، لا بقفزات سحرية. والمؤتمرات قد تكون مفيدة لتبادل الخبرات، لكنها لن تشفي العالم بين ليلة وضحاها. أما نحن، فربما علينا أن نتعلم كيف نقرأ ما وراء العناوين، وأن ندرك أن “اللقاء الذي يشفي من السرطان” قد يشبع فقط فضولنا المؤقت، قبل أن يعيدنا إلى الواقع.. فالطريق ما زال طويلًا، والشفاء النهائي لم يُعلن بعد.