شباب تونس يهجر الإعلام التقليدي.. البديل مواقع التواصل الاجتماعي

المستقبل الإعلامي سيُكتب على شاشات الهواتف الذكية حيث يختلط المحلي بالعالمي.
الجمعة 2025/10/24
مواقع التواصل الاجتماعي تهزم الإعلام التقليدي بالضربة القاضية

منذ قمة مجتمع المعلومات في تونس عام 2005، دخل شباب تونس عصرًا رقميًا جديدًا غيّر علاقتهم بالمعلومة والإعلام. ما بدأ بمقاهٍ إلكترونية وتجارب أولية، تحوّل إلى ثقافة رقمية واسعة، ثم إلى أداة ثورية في 2010، وصولًا إلى فضاء موازٍ يعيد تشكيل المشهد الإعلامي والسياسي اليوم.

تونس - في نوفمبر 2005 احتضنت تونس القمة العالمية الثانية لمجتمع المعلومات. كان ذلك حدثًا استثنائيًا في بلد حرص على أن يقدّم نفسه للعالم كجسر بين الشمال والجنوب، وكمنصة للنقاش حول الفجوة الرقمية وحق الشعوب في الوصول إلى الإنترنت. بالنسبة إلى شباب تونس لم تكن القمة مجرد مؤتمر دولي، بل نافذة يطلون من خلالها على عالم جديد. فجأة، أصبحت كلمات مثل “المجتمع المعلوماتي” و”الحق في الاتصال” و”الفجوة الرقمية” جزءًا من الخطاب العام. الجامعات والمعاهد حصلت على تجهيزات جديدة، والمقاهي الإلكترونية انتشرت بشكل لافت، لتصبح فضاءً يوميًا يلتقي فيه الشباب مع الإنترنت لأول مرة.

في تلك المقاهي تعرّف جيل كامل على البريد الإلكتروني والمنتديات وغرف الدردشة. هناك، وُلدت أولى التجارب الرقمية التي ستتحول لاحقًا إلى ثقافة رقمية واسعة. صحيح أن النظام آنذاك كان يفرض قيودًا صارمة على حرية التعبير، لكن المفارقة أن استضافة القمة ساهمت في تسريع انتشار الإنترنت داخل تونس، وزرعت بذور علاقة خاصة بين الشباب والتكنولوجيا. لقد شعروا بأن تونس جزء من “المجتمع المعلوماتي العالمي”، وأن التكنولوجيا ليست ترفًا بل حق وأداة للتغيير.

بعد خمس سنوات فقط، في ديسمبر 2010، انفجرت هذه البذور في الشارع. الثورة التونسية لم تكن لتأخذ شكلها لولا الهواتف المحمولة والكاميرات الرقمية وفيسبوك ويوتيوب. الصور التي وثّقت احتجاجات سيدي بوزيد، والفيديوهات التي انتشرت بسرعة على المنصات، كسرت احتكار الإعلام الرسمي، وأعطت الشباب إحساسًا غير مسبوق بالقوة. لقد أدركوا أن الفضاء الرقمي ليس فقط وسيلة للتواصل، بل أداة مقاومة ورقابة. كان ذلك الامتداد الطبيعي لما بدأ في 2005: جيل تمرّس بالإنترنت في المقاهي والجامعات، وجد نفسه فجأة يستخدم الأدوات ذاتها لإسقاط جدار الخوف.

القمة العالمية لمجتمع المعلومات زرعت بذور علاقة خاصة بين شباب تونس والتكنولوجيا كأداة للتغيير

منذ ذلك الحين ترسّخ في وعي الشباب أن الفضاء الرقمي هو البديل الحقيقي عن الإعلام التقليدي. القنوات التلفزيونية والإذاعات، في نظرهم، خاضعة لرقابة سياسية أو لمصالح اقتصادية، ما يجعلها أقل مصداقية. الصحافة الورقية فقدت جاذبيتها أمام سرعة التحديثات الرقمية. النتيجة كانت فجوة ثقة عميقة، يقابلها اعتماد متزايد على المنصات الرقمية، حيث يجد الشباب خطابًا أقرب إلى لغتهم، وصورًا تعكس واقعهم اليومي.

موقع فيسبوك ظل المنصة الأكثر تأثيرًا، خاصة في متابعة الأخبار المحلية والاحتجاجات الاجتماعية. لكن مع مرور الوقت أصبح موقعا إنستغرام وتيك توك منصتين للخطاب البصري، حيث يدمج الشباب بين الترفيه والرسائل السياسية والاجتماعية. مقطع قصير على تيك توك قد يثير نقاشًا عامًا أكثر مما تفعله نشرة أخبار كاملة. أما تويتر (أو إكس اليوم)، فرغم محدودية انتشاره مقارنة بفيسبوك، إلا أنه أصبح ساحة للنخب والناشطين، ومكانًا لتبادل المواقف السريعة.

هذا الفضاء الرقمي منح الشباب حرية التعبير، لكنه فتح الباب أيضًا أمام الفوضى. الأخبار الزائفة تنتشر بسرعة، وخطاب الكراهية يجد له مكانًا، وغياب آليات تحقق قوية جعل من بعض الصفحات أكثر تأثيرًا من وسائل الإعلام التقليدية، رغم ضعف مصداقيتها. هنا يطرح سؤال جوهري: هل الشباب مجرد مستهلك للمعلومة، أم أنهم أيضًا مسؤولون عن إنتاجها وتدقيقها؟ في الكثير من الأحيان يتحول الشاب التونسي إلى “مواطن صحافي”، يوثق ما يحدث في حيه أو جامعته أو مدينته، وينشره على الملأ. لكن بين التوثيق والتهويل، بين الحقيقة والإشاعة، تبقى الحدود هشة.

الثورة التونسية فجّرت الطاقات الرقمية وحوّلت الهواتف والمنصات إلى أدوات مقاومة ورقابة غير مسبوقة

البعد الثقافي والاجتماعي لهذا التحول لا يقل أهمية. وسائل التواصل لم تعد فقط بديلًا عن الإعلام، بل أصبحت فضاءً للهوية. الشباب يصنعون سردياتهم الخاصة، يعرضون موسيقاهم، فنونهم، وحتى احتجاجاتهم. في بلد يعاني من بطالة مرتفعة، تحولت المنصات أيضًا إلى مساحة للفرص الاقتصادية عبر التسويق الرقمي وصناعة المحتوى. الكثير من الشباب وجدوا في يوتيوب أو تيك توك مصدر دخل، أو وسيلة للتعبير عن الذات، أو حتى جسرًا نحو الشهرة.

لكن الأهم أن الفضاء الرقمي أعاد تشكيل العلاقة بين المواطن والمعلومة. لم يعد الشاب ينتظر أن يخبره المذيع بما يحدث، بل أصبح هو من يقرر ما يتابعه، ومن يثق به، وكيف يعيد صياغة الخبر. هذا التحول يطرح تحديًا كبيرًا أمام الإعلام التقليدي: كيف يستعيد ثقة جيل يرى أن التلفزيون بطيء، وأن الصحف بعيدة عن واقعه، وأن الراديو لا يتحدث بلغته؟

في المقابل، لا يمكن إنكار أن هذا الفضاء الرقمي جعل تونس جزءًا من شبكة عالمية عابرة للحدود. الشاب التونسي يتابع ما يحدث في غزة أو باريس أو نيويورك بالسرعة نفسها التي يتابع بها احتجاجًا في قابس أو مباراة في رادس. هذا الانفتاح جعل من الهوية الرقمية لشباب تونس هوية كونية، لكنها أيضًا عرضة للتأثر بالخطابات العالمية، من الحركات الاجتماعية إلى موجات الشعبوية.

الاتحاد الأوروبي يراقب هذه التحولات باهتمام، كما يراقب أزمة المياه والهجرة. بالنسبة إليه الفضاء الرقمي التونسي مختبر للتحولات الديمقراطية والاجتماعية في جنوب المتوسط. شباب تونس يستخدمون هذه المنصات ليس فقط للتعبير، بل أيضًا للتواصل مع العالم، ما يجعل تونس جزءًا من ديناميكية أكبر، حيث الإعلام لم يعد وطنيًا فقط، بل عابرًا للحدود.

الفضاء الرقمي أصبح بديلًا حقيقيًا عن الإعلام التقليدي يمنح الشباب حرية لكنه يفتح باب الفوضى

ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن أن يتحول هذا الفضاء الرقمي إلى بديل كامل عن الإعلام التقليدي، أم أنه سيظل مكملًا له؟ التجربة التونسية تقول إن الإعلام التقليدي فقد الكثير من بريقه، لكن الحاجة إلى مؤسسات إعلامية مهنية لم تختفِ. فالمعلومة تحتاج إلى تدقيق، والتحليل يحتاج إلى خبرة، والذاكرة الجماعية تحتاج إلى من يوثقها بشكل مسؤول.

حين ننظر إلى المشهد اليوم، نرى أن شباب تونس يعيشون بين عالمين: عالم الإعلام التقليدي الذي لم يعد يرضي تطلعاتهم، وعالم الفضاء الرقمي الذي يمنحهم الحرية لكنه يضعهم أمام فوضى لا تنتهي. بين الاثنين، يحاولون أن يصنعوا صوتهم الخاص، وأن يكتبوا القصة بوسائلهم الخاصة.

الفضاء الرقمي في تونس لم يعد مجرد بديل عن الإعلام التقليدي، بل أصبح إعلامًا موازيًا يفرض أجندته ويعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والمعلومة. وإذا كانت قمة المعلومات في 2005 قد زرعت البذور، وثورة 2010 قد فجّرت الطاقات، فإن الحاضر يكشف أن المستقبل سيُكتب على شاشات الهواتف الذكية، حيث يختلط المحلي بالعالمي، والذاتي بالجمعي، في صياغة جديدة يقودها جيل لم يعد ينتظر أحدًا ليخبره بما يحدث.

لكن لا يمكن النظر إلى المشهد التونسي بمعزل عن السياق العالمي. فالإعلام التقليدي في كل مكان يواجه اليوم عاصفتين متزامنتين: وسائل التواصل الاجتماعي التي غيّرت سلوك الجمهور، والذكاء الاصطناعي الذي يعيد صياغة صناعة الأخبار نفسها. لم يعد المتلقي ينتظر الخبر، بل يشارك في صناعته، ولم تعد غرف الأخبار وحدها تحتكر التحليل والتفسير، بل دخلت الخوارزميات على الخط لتنتج نصوصًا وصورًا وفيديوهات في ثوانٍ. في هذا المناخ يصبح الإعلام الذي يكتفي بتوجيه اللعنات إلى الظلمة عاجزًا عن الاستمرار. المطلوب أن يوقد شمعة؛ أن يبتكر، أن يتبنى التكنولوجيا بدل أن يخشاها، وأن يعيد بناء الثقة مع الجمهور عبر الشفافية والمهنية.

الإعلام التونسي، إذا أراد أن يستعيد مكانته، يحتاج إلى أن يتوقف عن اجترار خطاب الشكوى، وأن يتحول إلى صانع حلول؛ أن يرى في الذكاء الاصطناعي فرصة لتعزيز التحقق من الأخبار لا تهديدًا، وأن يتعامل مع السوشيال ميديا كفضاء للتفاعل لا كخصم. فالمستقبل لن ينتظر المترددين، ومن لا يواكب سيتجاوزه الزمن. وبينما يكتب الشباب روايتهم على شاشات الهواتف الذكية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يملك الإعلام التقليدي الشجاعة ليضيء شمعة بدل أن يلعن الظلام؟

10