هم جائعون للأكل ونحن جائعون للإنسانية

الجوع للأكل في غزة كارثي، لكن الجوع الأخلاقي في العالم أشد كارثية، العالم اليوم لا يسير نحو التفاهة بقدر ما يسير نحو انعدام الأخلاق.
الأربعاء 2025/08/06
الأفظع هو الجوع خارج غزة، إنه جوع العالم للإنسانية

لا أدري ما الذي دفعني إلى الكتابة عن "الجوع"، فحتى المشاهد المؤلمة التي تأتينا من غزة، أشعر أنه لا جدوى من الكتابة عنها.

ما التغيير الذي سيحدثه مقال، لا شيء، فمن يعيشون هناك على الأرض طرفان: جائع لا يفكر إلا في الطعام، لا حلم يراوده سوى لحظة سلام يأكل فيها قطعة خبز أو “لحم بعجين” أو لم لا “طنجرة مقلوبة”؟ والمقلوبة، حلم صعب المنال، فمن يعيد للغزاويين لحظة أمن ومعها وجبة أكل لذيذة؟

يجوع الطرف الأول بينما ينشغل الثاني بحرب جر إليها الآلاف، أرغم بعضهم على الصعود إلى الله، أفقد آخرين ما يمكن من الأهل والأحبة، وبينما يؤجلون حل النزاع الذي طال، يتركون جميع الغزاويين يواجهون جوعا قاتلا، ليس للأكل فقط، وإنما هناك جوع من نوع آخر، جوع للأمان، للحب، للدراسة، للكتابة، جوع للحياة.

هناك، الجوع لم يعد مجرّد انعدام الطعام، بل أصبح طريقة بطيئة للموت اليومي، حيث ينام الأطفال وهم يحلمون بقطعة حلوى أو “ساندويشة”، وتنبش الأمهات في أركان الخيام علهن يعثرن على فتات خبز أو بقايا وجبة تسد رمق أطفالهن.

لم يعد الجوع يقاس بعدد السعرات الحرارية الداخلة لجسم الإنسان، بل بمرارة الانتظار والزمن الفاصل بين لقمة وأخرى، يقاس بالذل الذي يعيشه الإنسان حتى يحظى بفرصة الحصول على بعض الطحين. يقاس الجوع في غزة بأنفاس كل طفل مات جوعا، وأن تموت بقصف جوي مدمر لأهون من أن تتضور جوعا حتى تلفظ آخر أنفاسك.

هناك جوع كبير لفن حقيقي يخاطب العقول مع الحواس، يقابله نهم وشراهة لأكل كل ما هو تافه وسطحي

الأفظع هو الجوع خارج غزة، إنه جوع العالم للإنسانية. يبدو أنهم حقيقة “جائعون للأكل وبقية العالم جائع للأخلاق”، فالصمت الدولي، تجاهل التدخل العاجل لحل الأزمة، الخطابات الشكلية، كلها صور مأساوية عن جوع الضمير.

لولا تدخلات بعض الدول مثل مصر والأردن لإدخال مساعدات، لربما هلك جميع من في غزة، ولوجدنا أنفسنا في عالم شبع من الصور والمواقف الرمزية، بينما تآكلت أجساد الآخرين.

الجوع للأكل في غزة كارثي، لكن الجوع الأخلاقي في العالم أشد كارثية، العالم اليوم لا يسير نحو التفاهة بقدر ما يسير نحو انعدام الأخلاق، وحتى من يملك أخلاقا، أصبح غريبا بين أهله. إدمان التواصل الافتراضي، وإدمان النظر للآخر ولما يعيشه ويصوره، سجن العيون والعقول بين أسوار الهاتف حول البشر إلى بشر افتراضيين، يتفاعلون بإعجاب، ويغضبون في تعليقات، وإذا ضجروا استخدموا زر البلوك (الحظر).

ربما يكون ما كتبته فضفضة سريعة تنير في عقل من يقرؤها فكرة وتدفعه إلى إعادة البحث في مفهومها وأوجهها. فالجوع اليوم لديه صور عديدة، لكنها مستفحلة في المجتمعات، هناك جوع كبير ينهش العقول للعلم والمعرفة، لكن أصحابها يتجاهلونه، يكفيهم ملء بطونهم، العقول لا تهم مثل هؤلاء.

في منطقتنا العربية هناك جوع أنثوي كبير لاستعادة الذكور أدوارهم الفطرية، جوع نراه كل يوم في “حنفية” المعالجين النفسيين والمؤثرين الذين يبيعون دورات تدريبية تعلمنا كيف نستعيد أنوثتنا الضائعة، وكيف نعرف الرجل الجيد في زمن كثر فيه الرجال المزيفون.

هناك جوع كبير لفن حقيقي يخاطب العقول مع الحواس، يقابله نهم وشراهة لأكل كل ما هو تافه وسطحي، الأمر قد يبدو طبيعيا فتلك الأشياء أشبه بالمادة الإدمانية التي إن حظرت أفقدتك الرغبة في تناول أطعمة أخرى، الأمر يشبه أطفال اليوم، أدمنوا الحلويات والأكلات السريعة حتى صار الأكل الطبيعي أمرا غريبا عنهم، وهجمت عليهم أمراض الكهول قبل الأوان.

كل هذا الجوع يذكرني بعبارة “الجوع الموروث بالدم، لن يشبعه كل قمح العالم” للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، جملة عميقة تتجاوز الجوع الجسدي لتغوص في الجوع الوجودي والتاريخي وكل أشكال الجوع المنتشرة والتي لن يشبعها كل قمح العالم.

18