صباح الخير أيها الوحش

"لو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه ولرأى عدل الموازين الباطنيّة برغم اختلال الموازين الظاهرية ولما شعر بحسد ولا بحقد ولا بزهو ولا بغرور!". لم أكن أعي عمق هذه العبارة لمصطفى محمود، لكن الحياة وضعتني أمام قلوب الآخرين في لحظات بوح حميمي لأدرك حقيقة أن داخل كل من نعرفه شخص آخر لا نعرفه، شخص تألم ويسعى جاهدا ليخفي ألمه عن العالم الخارجي.

الحياة متعبة جدا للكثيرين، رحلة شاقة جعلت تقريبا ثلثي من يزورون العيادات النفسية ليسوا مرضى نفسيين بل أناس متعبون من الحياة، يبحثون عن حلول لأفكارهم ومشاعرهم وأوضاعهم الحياتية اليومية وعلاقاتهم المتصدعة.

يخوض أغلب أصدقائي رحلات علاج نفسي، بعضهم منذ سنوات، والبعض الآخر بدأ جلساته مع مختصين منذ وقت قصير، لكن جميعهم وإن كانوا في البداية معترضين عن الذهاب لعيادات الأطباء والمعالجين النفسيين، هم اليوم يفتخرون بما حققوه من بدايات لفهم أنفسهم واستعادة توازنهم وتفكيك لأنماط سلوكهم وعلاقاتهم.

إن لم تكن تعاني من إحدى الاضطرابات النفسية، وكنت متعبا من الحياة ومن فيها، ربما تساعدك الكتب على الغوص في خبايا الأنفس، التعلم من حكايات المرضى، وإنها أحيانا لحكايات تشيب لها الولدان، كتلك التي ذكرتها الكاتبة الأميركية الدكتورة كاثرين جلدنر في كتابها “صباح الخير أيها الوحش”.

تقدم الدكتور للكتاب بالقول إنه “كتاب عن خمسةِ أشخاصٍ أعتبِرهم أبطالَ حروبٍ نفسيةٍ، لا جدالَ أن المعارك التي خاضوها تركت لديهم ندوبًا، لكنهم انتصروا انتصارًا حقيقيًّا.. للوهلة الأولى قد يبدو هؤلاء الخمسة غاية في الاختلاف، لكننا نكتشف، بعد تقشير الطبقات الخارجية، أن احتياجاتهم اللاواعية متشابهة إلى حدٍّ مُدهش، وأننا جميعًا في حاجة إلى الشعور بأننا محبوبون لنعيش حياةً طيبةً”.

إحدى حكايات الكتاب تخص فتاة تدعى لورا، ذهبت لتعالج مرض الهربس فوجدت نفسها تحفر في أعماق تجربتها الحياة، وكيف مرت من طفلة ماتت أمها وتخلى عنها والدها، لتصبح أما لإخوتها وهي لم تتعدى بعد التسع سنوات، فتاة لم تجد رعاية كافية تعلمها كيف تصمد في وجه الحياة وأزماتها، لكنها استطاعت أن تقاوم، سرقت من أجل أن تطعم إخوتها وتلبسهم ثيابا نظيفة، صمدت لمدة ستة أشهر قبل أن تمسك بها الشرطة بالجرم المشهود، ثم تتبناهم عائلة وتربيهم حتى عاد الأب المدمن ليأخذهم. مرت حياتها بالكثير من المصاعب، لكنها لم تبح بما عاشته لأي كان، حتى إخوتها لا يعلم كل واحد منهم بماذا مر الآخر، ثم أحبت رجلا كان سببا في أن أصيبت بمرض الهربس ولجأت لطبيب نفسي لتكتشف أن المرض يهاجمها كلما شعرت بالخوف والقلق وكتمت مشاعرها.

رحلة عميقة، من محاولة لعلاج مرض عضوي إلى علاج الآلام النفسية، حولت فتاة من امرأة تختار رجالا مدمنين وغير مسؤولين يشبهون والدها الذي تتمسك بتعلقها به، إلى امرأة تعرف جيدا ماذا يعني الحب وكيف يكون الرجل رجلا جيدا في حياة زوجته وأبناءه. رحلة بمجرد أن تطلع عليها وعلى بقية الحكايات في الكتاب، ستدرك أنه ربما ما عشته لا يعادل جزء مما مر به آخرون ونجحوا في تجاوزه حتى وإن كان ذلك تجاوزا ظاهريا.

بعد قراءة الكتاب، ستقول لنفسك وللآخرين “صباح الخير أيها الوحش”، صباح الخير أيتها الحياة. كل ما تحتاجه هو إدراك حقيقة كون أن ليس لك أي علاقة مباشرة بمشاكلك النفسية، وأن دور كلا الأبوين يتوقف حين تدرك أن لا فائدة للإفصاح عن كونهم هم السبب الرئيسي في كونك تعاني ولكن عليك باتخاذ خطوة من أجل نفسك والتقبل أن كل كلمة تقال في حقك ليس من الشرط أن تكون داله على حقيقتك.