أطلق سراح ما تحب قبل ما تكره
هناك مقولة تردد على مسامعنا كثيرا تقول “إذا أردت شيئا بشدة فأطلق سراحه، فإن عاد إليك فهو لك إلى الأبد، وإن لم يعد، فهو لم يكن لك من البداية”، البعض ينسبها إلى العالم الصوفي جلال الدين الرومي، والبعض ينسبها إلى الأديبة الجزائرية أحلام مستغانمي وآخرون يقولون إنها للفيلسوف الصيني كونفوشيوس. لا يهم من قالها، لكنها لا تزال قائمة حتى اليوم، ويبدو أنها وجدت طريقها لعقول وقلوب البشر فحفظوها ورددوها حتى عاشت كل هذا الزمن بيننا.
أرجح أن تكون للرومي، فهي تتماشى مع الكثير من تعاليمه الصوفية وأبرزها “ما تبحث عنه يبحث عنك”، لقد كان يؤمن بأن الإنسان لا يسبح في الفلك لوحده وإنما هو مترابط مع كل شيء حوله، لذا فإنه لو كان يبحث عن أمر، شخص، هدف، حلم فإن ما يبحث عنه يسعى نحوه بالضرورة، وإلا لما زرعت فيه رغبة دفينة في أن يتحرك نحوه ولو قيد أنملة.
كل هذا ارتبط في عقلي بأمر بعيد كل البعد عن الفكرة، لكنه ربما ليس ببعيد، فالعقل دقيق جدا، خوارزمياته لا تخطئ في الربط بين فكرة وأخرى، ربطا متكاملا حتى ولو لم يكن واضحا للإنسان منذ البداية. لقد ارتبط بالقمر الذي يكتمل هذا الشهر في السابع من أكتوبر الحالي. ربما كان اكتمال القمر استعادة عميقة في اللاوعي لأن ما نحبه بشدة أو ما نكرهه، أو ما نبحث عنه عموما، يمكننا إفلاته، إطلاق سراحه، كي يختار هل يعود إلينا أو يتلاشى فندرك أنه لم يكن لنا منذ البداية.
القمر، مخلوق أثار دائما انتباه الإنسان على امتداد الحضارات، تأمله، أحبه، تتبع دورته الحياتية، اعتمده دلالة على العشق والجمال والشوق والبعد، لكنه أيضا خاف منه، واعتبر أي أمر يصيبه نذير شؤم على البشر. ربما يكون الأمر منطقيا، فما يحدث في السماء ليس بمعزل عما يحدث على أمنا الأرض، وما يدور خارجها سيكون له انعكاس عليها.
في مرحلة اكتماله، أثار القمر فضول البشر وألهم خيالهم، من قصص المستذئبين في الفولكلور الغربي، إلى المعتقدات العربية حول تأثير القمر على السلوك والمزاج، ظل البدر عنصرا غامضا في السماء، يربط الناس بين ظهوره الكامل وأحداث استثنائية على الأرض.
ليست هناك دراسات علمية كثيرة تثبت مدى تأثير القمر على البشر، هناك فقط معلومات يصدقها البعض عن ثقافات وحضارات سابقة، عن علوم أولئك الأمم، وكيف تعاملوا مع النجوم والكواكب، بعضهم قد عبدوا القمر، منبهرين بذلك الجرم الذي يتحوّل ويتبدّل، وأطلقوا عليه أسماء عديدة من بينها “ورخ”، “سن” أو”سين”، “شهر”، و”ود”.
تعلق البشر قديما بالقمر وعشقهم له، يشبه تعلقهم بما يحبونه في الحياة، ويعيدنا إلى المقولة التي تصدرت هذا المقال. اليوم نحتاج تعلم أن نطلق سراح ما نحب قبل ما نكره، فما تكرهه ستحرره تلقائيا منك، لكن ما تحبه ستتشبث به، تتعلق به، والتعلق يحرمك لذة الإنجاز والتفاعل.
علينا ألا نقيّد الأرواح والأهداف بسلاسل التعلق، ونترك لها حرية التجسد في حياتنا، لأن ما يحضر بطوعه وإرادته هو ما نستحق حقيقة وجوده في حياتنا، سيكون هو الأمر أو الشخص الأصدق، الأنقى، والأقرب إلى القلب من كل شيء أُجبر على البقاء.
ففي الصمت الذي يلي التخلّي، والذي يلي اكتمال نضجنا ومشاعرنا، تُختبر الأعماق، وتُفرَز الرغبات من الحاجات، والحقيقة من الوهم، وإن لم يعد ما أحببته، وما سعيت إليه فلا تندب خسارته، بل اشكر خالق هذه الحياة لأنه منحك فرصة ألا تعيش وهما مزيفا اسمه “إلى الأبد”. فالأبد لا يُصنع بالقوة، بل بالحرية التي تختارك كل يوم، ولو كان بوسعها أن تذهب ألف مرة.