نزوح متزايد من التعليم الخاص نحو العمومي في المغرب
الرباط - التحق أكثر من 8 ملايين و270 ألف تلميذة وتلميذ بمقاعد الدراسة في مختلف المؤسسات التعليمية بالمملكة المغربية، إيذانًا بانطلاق الموسم الدراسي 2025 – 2026، الذي اختير له هذا العام شعار “من أجل مدرسة ذات جودة”.
وتميز هذا الدخول المدرسي بمعطيات رقمية تعكس حجم التحدي التربوي؛ إذ تجاوز عدد التلاميذ الجدد في السنة الأولى من التعليم الابتدائي 730 ألفًا، بزيادة 7.4 في المئة مقارنة مع السنة الماضية، فيما بلغ مجموع المتمدرسين بالتعليم العمومي أكثر من 7 ملايين. وللاستجابة لهذه الديناميكية جرى إحداث 2461 قاعة إضافية، و169 مؤسسة تعليمية جديدة، منها 72 في الوسط القروي، إضافة إلى 15 مؤسسة داخلية كلها بالعالم القروي، في خطوة تهدف إلى تقليص الفوارق المجالية.
كما سجل التعليم الأولي حضورًا وازنًا خلال هذا الموسم، حيث استقطب حوالي مليون طفل، ثلثاهم في المؤسسات العمومية، وهو ما صاحبه تكوين آلاف المربيات والمربين لضمان جودة هذه المرحلة التأسيسية من مسار التعلم.
وخلال السنوات الأخيرة شهد قطاع التعليم في المغرب تحولات بارزة، أبرزها تزايد ظاهرة انتقال أعداد مهمة من التلاميذ من مؤسسات التعليم الخاص نحو التعليم العمومي. وباتت هذه الظاهرة تثير نقاشاً واسعاً بين الأسر والفاعلين التربويين، وتكشف عن أبعاد متعددة تتداخل فيها الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية.
نزوح التلاميذ من التعليم الخاص إلى العمومي ليس مجرد انتقال عابر، بل هو مؤشر على تحولات اجتماعية عميقة
فحسب معطيات رسمية سجّل الموسم الدراسي 2022 – 2023 مغادرة حوالي 85 ألف تلميذ للتعليم الخاص نحو العمومي، في حين بلغت العدد خلال الموسم 2023 – 2024 نحو 80 ألف تلميذ. ويُتوقع أن يعرف الموسم الدراسي 2025 – 2026 ارتفاعاً أكبر في هذه الظاهرة، ما ينذر بضغط إضافي على البنية التحتية للمؤسسات التعليمية العمومية.
وبحسب وكالة الأنباء المغربية يرجع المراقبون هذه الهجرة إلى جملة من العوامل؛ أبرزها الارتفاع المستمر في تكاليف التمدرس بالقطاع الخاص، مقابل محدودية القدرة الشرائية للأسر، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تعرفها البلاد. كما يشير آخرون إلى تراجع ثقة بعض الآباء بجودة التعليم الخاص، نتيجة غياب المراقبة الصارمة وتفاوت مستويات التكوين والتأطير بين المؤسسات.
وفي المقابل، وفق الوكالة، بدأت المدرسة العمومية تستعيد شيئاً من جاذبيتها، بفضل عدد من البرامج الإصلاحية التي أطلقتها وزارة التربية الوطنية، من بينها مشروع “مؤسسات الريادة” وتوسيع شبكة الدعم الاجتماعي عبر النقل المدرسي والإطعام والمنح، إضافة إلى تحسين التجهيزات وتطوير المناهج.
غير أن هذا النزوح يطرح تحديات حقيقية أمام المنظومة التعليمية العمومية، التي تجد نفسها مطالبة باستيعاب أعداد إضافية من التلاميذ، وهو ما قد يثقل كاهلها ويؤثر على جودة التعليم إذا لم ترافقه إجراءات استباقية ناجعة.
ويرى خبراء في التربية أن معالجة هذه الإشكالية تقتضي إعادة النظر في تنظيم قطاع التعليم الخاص عبر وضع ضوابط أو تسقيف للأسعار، وضمان جودة تعليم حقيقية تستجيب لتطلعات الأسر. كما أن نجاح الإصلاح العمومي مرهون بقدرة الدولة على الاستثمار أكثر في البنية التحتية وتأهيل الموارد البشرية بما يضمن عدالة تعليمية ومجالية.
وقال الخبراء إن نزوح التلاميذ من التعليم الخاص إلى العمومي ليس مجرد انتقال عابر، بل هو مؤشر على تحولات اجتماعية عميقة تستدعي قراءة متأنية ورؤية إصلاحية متكاملة، تضع مصلحة المتعلم في قلب الأولويات، بعيداً عن منطق السوق والربح.
إعادة النظر في تنظيم قطاع التعليم الخاص عبر وضع ضوابط أو تسقيف للأسعار، وضمان جودة تعليم تستجيب لتطلعات الأسر، ضروريان
وتعاني شريحة واسعة من الأسر المغربية، خاصة ذات الدخل المتوسط والمحدود، من الارتفاع المستمر لتكاليف التمدرس في مؤسسات التعليم الخاص، ولا يقتصر الأمر على رسوم التسجيل السنوية والتأمين الإجباري، بل يشمل أيضاً أعباء إضافية تتعلق بشراء الكتب والمقررات الدراسية واللوازم المدرسية، التي تُفرض في الكثير من الأحيان على الأسر من داخل المؤسسة نفسها وبأسعار تفوق السوق.
وذلك رغم تأكيد وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة أنها ستعمل من خلال القانون المتعلق بالتعليم المدرسي على مراجعة الإطار القانوني والتنظيمي للتعليم الخاص، بهدف تعزيز الشفافية والوضوح في العلاقة بين مؤسسات التعليم الخاص وأولياء الأمور، عبر تنظيم الجوانب المالية والإدارية والتربوية لهذه العلاقة.
وجاء مشروع القانون المتعلق بتنظيم التعليم المدرسي الخاص، الذي أعدته وزارة التربية الوطنية، كمبادرة تشريعية تهدف إلى معالجة عدد من الاختلالات التي يعرفها هذا القطاع، ويرمي المشروع إلى تعزيز الشفافية والوضوح في العلاقة بين مؤسسات التعليم الخاص وأولياء الأمور حتى لا يكلف هذا التعليم الأسرَ أعباء اجتماعية ومالية، من خلال تنظيم الجوانب المالية والإدارية والتربوية لهذه العلاقة، ووضع حد للممارسات غير القانونية أو غير الأخلاقية التي قد تضر بمصلحة المتعلمين وأسرهم.
وتزامنت العودة المدرسية في المغرب هذا العام مع تنزيل خارطة الطريق 2022 – 2026، التي تراهن على نموذج “مؤسسات الريادة”. وقد بلغ عدد هذه المؤسسات 4626 مدرسة ابتدائية و786 إعدادية، تحتضن ما يقارب 2.7 مليون تلميذ، بما يعكس الرهان على التجديد البيداغوجي وتوفير فضاءات تعليمية محفزة.
وفي الشق اللغوي تواصل توسيع تدريس الأمازيغية في التعليم الابتدائي، إلى جانب التعميم الكامل لتدريس اللغة الإنجليزية بجميع مستويات السلك الإعدادي، في خطوة تروم تعزيز الكفايات اللغوية للتلميذات والتلاميذ.
أما في ما يتعلق بمحاربة الانقطاع عن الدراسة فقد جرى تعزيز شبكة “مراكز الفرصة الثانية”، حيث ارتفع عدد المستفيدين منها إلى 35 ألف تلميذ، بزيادة 6 آلاف عن السنة الفارطة، ما يمنح الأطفال والشباب المنقطعين عن الدراسة فرصة جديدة للعودة إلى مسار التعلم والتأهيل.
وإذا كانت هذه الأرقام تعكس استثمارًا تربويًا وتنظيميًا واسعًا، فإن الرهان الأكبر يظل متمثلًا في تحسين جودة التعليم ورفع مردودية التلاميذ، حتى يتحول شعار “من أجل مدرسة ذات جودة” إلى مكتسب ملموس داخل الفصول الدراسية، ينعكس إيجابًا على الأسر والمجتمع.