مهرجان "سيني بلاج الهرهورة" للفن السابع وليس للسياحة الثقافية

المنظمون يطالبون برعاية أكبر لتحويل المهرجان إلى محطة دولية دائمة.
الثلاثاء 2025/09/02
قوة السينما في انفتاحها على الجمهور

يمثل مهرجان "سيني بلاج الهرهورة" تظاهرة فريدة من نوعها تخرج السينما من القاعات الكلاسيكية وتفتحها على فضاءات الشواطئ، ويساهم ذلك في تقريبها من الجمهور، الذي يوفر له المهرجان العديد من الفعاليات علاوة على عروض الأفلام المتنافسة على جوائزه. وهذا العام تمكن المهرجان من تحدي الظروف الصعبة التي كادت تلغي دورته.

اختتم مهرجان “سيني بلاج الهرهورة” في دورته السادسة فاتحا أبوابه على البحر والشاشة ليعلن انحيازه الكامل للفن السابع، بعيدا عن الثقافة بمفهومها الإداري البيروقراطي، فمنذ تأسيسه لم يقدّم نفسه كواجهة بروتوكولية، لأنه حقيقة كبيت كبير يجمع أبناء السينما وروادها، يتحول اللقاء فيه إلى دفء عائلي، ويشعر كل مخرج أو ممثل أو ناقد بأنه في فضائه الطبيعي، بعيداً عن الرسميات التي تخنق روح الفن باسم الثقافة السياحية.

ويبني المهرجان جوهره على فكرة أن السينما صناعة فنية قبل أن تكون ثقافية تجارية، فهي مشروع فني له مبدعوه وتقنيّوه وروّاده، وله جمهوره الذي يتابع شغفه مع الشاشة، بينما الثقافة كما تُدار في السياقات الرسمية كثيراً ما تتحول إلى واجهة بروتوكولية أو وسيلة لتسويق المدينة سياحيا، وهنا يكمن الخطر: حين يصبح المهرجان السينمائي أداة للتسويق السياحي باسم “الثقافة” يفقد جماليته الفنية ويبتعد عن أصحابه الحقيقيين، أي أهل السينما.

سينما بلا بروتوكولات

الدورة السادسة من المهرجان، رغم بدايتها المأزومة، تحولت إلى دورة استثنائية أعادت الاعتبار للسينما كفن جامع
الدورة السادسة من المهرجان، رغم بدايتها المأزومة، تحولت إلى دورة استثنائية أعادت الاعتبار للسينما كفن جامع

يعرف المتتبعون أن الفن السابع يجمع أهله وصنّاعه، فهو الذي يحتضن إنجازاتهم ويمنحهم مساحة لتبادل خبراتهم، سواء من خلال المسابقة الرسمية أو الورشات أو الماستر كلاس، وكل هذه الفضاءات ليست هي قلب المهرجان النابض، فيها يتعلم الشباب أسرار الكتابة الفيلمية، ويكتشفون تقنيات التشخيص والإخراج، ويحتكون برواد السينما الذين يحملون ذاكرة عقود طويلة من التجربة.

ويثبت المهرجان من خلال ذلك أن الفن السابع لا يمكن أن يصبح ديكوراً ثقافياً يضاف إلى قائمة أنشطة المدن السياحية من أجل الربح المادي، لماذا؟ لأنه فعل فني يبتعد بالثقافة عن الرسمية التي تجرّ المهرجان إلى أفق ضيق، حيث تتحول العروض إلى تظاهرات عابرة تستهدف ملء أجندة سياحية أو سياسية، بدل أن تكون ورشة حقيقية لتطوير الصناعة السينمائية المغربية.

ويُدرك رواد المهرجان هذه الحقيقة، لذلك يشددون على أن “سيني بلاج” مهرجان سياحي فني وليس سياحيا ثقافيا، والفرق بين الوصفين كبير: فالسياحة الفنية تجعل البحر والشاشة فضاءً جمالياً للقاء المبدعين والجمهور، أما السياحة الثقافية فتستعمل السينما كوسيلة لا كغاية، وتضعها في خانة الترويج وليس الإبداع.

ويحتاج المهرجان اليوم إلى حماية مؤسساتية واضحة، ليس من وزارة الثقافة، وإنما من المركز السينمائي المغربي الذي يعد المؤسسة الشرعية الوحيدة للفن السابع بالمغرب، ودعم المركز السينمائي للمهرجان سيمنحه الاستقلالية اللازمة، ويحافظ على روحه كبيت للسينمائيين لا كواجهة إدارية، كما أن وضعه تحت رعاية الملك محمد السادس سيمنحه المكانة التي يستحقها، ويجعله في مصاف المهرجانات الكبرى التي تحظى بحماية عليا تضمن استمراريته بعيدا عن الحسابات الظرفية.

ويتحوّل “سيني بلاج” بهذه الخطوات إلى ملاذ حقيقي لصناع الأفلام، حينها يمكنهم عرض أعمالهم ومناقشة قضاياهم الفنية بحرية، واستعادة معنى المهرجان كرحلة إبداعية وليس كأجندة سياسية أو تجارية، وعندها فقط يستعيد المهرجان رسالته الأصلية، أي أن يكون للسينما وحدها، للفن السابع بما يحمله من سحر وقدرة على جمع الناس حول الصورة والحكاية.

ويطرح هذا النقاش سؤالاً أعمق: هل المهرجانات السينمائية في المغرب فضاءات للفن السابع أم مجرد أنشطة ثقافية ظاهريا واقتصاديا وسياسية باطنيا؟

الجواب في تجربة “سيني بلاج”: فحين تظل السينما في مركز الاهتمام، ينجح المهرجان في صناعة ذاكرة فنية أصيلة، وحين تتحول إلى مجرد ذريعة ثقافية، تذوب خصوصيته ويتبخر سحره.

وهكذا يؤكد مهرجان الهرهورة أن السينما في حاجة إلى فضاءات تحمي استقلالها وتحتفي بأهلها، بعيدة عن القوالب الثقافية البروتوكولية التي تفرغها من معناها، فالفن السابع لا يزدهر إلا حين يبقى لأبنائه، ومن هنا تأتي أهمية “سيني بلاج” كبيت للعائلة السينمائية، وكشاشة تطل على المحيط لتعلن أن جمال شاشة الشاطئ أوسع من السياسة، وأن الفن أصدق من أي خطاب.

وعرف المشهد السينمائي المغربي محطة بارزة مع اختتام الدورة السادسة من مهرجان سينما الشاطئ بالهرهورة، الذي التأم بين 26 و30 أغسطس الماضي، على رمال شاطئ سيدي عابد. وقد أسدل الستار مساء السبت على فعاليات هذه التظاهرة الفنية بتتويج فيلم “أبي لم يمت” للمخرج عادل الفاضلي بالجائزة الكبرى، في أمسية وسمتها لحظات مؤثرة وعروض متميزة.

المهرجان يؤكد أن السينما في حاجة إلى فضاءات تحمي استقلالها وتحتفي بأهلها بعيدا عن القوالب الثقافية البروتوكولية

الدورة التي نظمتها الجمعية المغربية للفن بلا حدود بشراكة مع جماعة الهرهورة ووزارة الشباب والثقافة والتواصل والمركز السينمائي المغربي، شكلت مناسبة للاحتفاء بغنى وتنوع الإنتاجات الوطنية، عبر عروض سينمائية، وماستر كلاس، وورشات وموائد مستديرة، كما كانت فضاء للتكريم والتقدير لرموز الفن السابع، وعلى رأسهم الممثلة نادية نيازي، إلى جانب السعدية لديب والمخرج حميد الزوغي.

وتخللت حفل الاختتام لحظات قوية، تميزت بعرض فيلم “نوستالجيا بيتش” لشاكر أشهبار، وهو فيلم خارج المسابقة الرسمية يحكي قصة أمين الذي فقد ذاكرته وقدرته على الكلام إثر حادث منزلي، ليصبح معتمدا على زوجته وفاء وابنته لينا، قبل أن يلتقي بإيناس، وهي شابة جميلة وغامضة يتمكن من نطق اسمها.

ومنحت لجنة التحكيم، التي ترأسها المخرج والمنتج عبدالرحمن التازي، وضمّت في عضويتها المخرج عزيز السالمي، والممثل والموسيقي يونس ميكري، والممثلة والمخرجة لطيفة أحرار، والممثلة بشرى أهريش، جائزة الإخراج لفيلم “وحده الحب” لكمال كمال، فيما عادت جائزة أحسن دور نسائي للممثلة فاطمة الزهراء بلدي عن مشاركتها في فيلم “جلال الدين” لحسن بنجلون، بينما توج الممثل عادل أبا تراب بجائزة أحسن دور رجالي عن أدائه في فيلم “كأس المحبة” لنوفل براوي.

واستعرض رئيس المهرجان، عبدالواحد مجاهد، في كلمة بالمناسبة أهم المحطات التي طبعت هذه الدورة، مؤكدا أنها أتاحت لعشاق السينما والجمهور العريض فرصة اكتشاف باقة متنوعة من الأفلام على الشاشة الكبيرة لشاطئ سيدي عابد، والتفاعل المباشر مع مهنيي الفن السابع، فيما توقف رئيس جماعة الهرهورة، محمد لخريف، عند الطابع المتفرد لهذه التظاهرة الفنية التي أقيمت على شاطئ البحر، بما يمنحها خصوصية وتميزا في الساحة الفنية الوطنية.

وهكذا رسخت الدورة السادسة من مهرجان سينما الشاطئ بالهرهورة مكانتها كموعد سنوي يحتفي بالسينما المغربية، ويؤكد في الآن ذاته على قوة هذا الفن وقدرته على الانفتاح على الجمهور في فضاءات طبيعية مفتوحة، تجمع بين متعة الفرجة السينمائية ودفء اللقاء الإنساني.

تجاوز الأزمات

pp

عاينّا ونحن نواكب مسار مهرجان “سيني بلاج” بالهرهورة أن الدورة السادسة منه مرت بتجربة استثنائية، إذ سبق أن أُعلن عن إلغائها بسبب ضعف الدعم المالي وتراجع الجهات الممولة، غير أن إرادة المنظمين حولت الأزمة إلى لحظة إبداعية، فجاءت الدورة ناجحة بكل المقاييس، مؤكدة أن السينما المغربية قادرة على الصمود حتى في أحلك الظروف.

ونوضح أن رئيس الجمعية المغربية للفن بلا حدود ومدير المهرجان، عبدالواحد مجاهد، أقر بأن التحديات كانت قاسية، حينما تخلى المركز السينمائي المغربي عن تقديم الدعم المعتاد، في وقت حصلت فيه مهرجانات أخرى على دعم وفير، ومع ذلك لم يستسلم المنظمون، وأعادوا ترتيب أولوياتهم ونجحوا في تقديم برنامج ثقافي غني جمع بين عروض سينمائية وورشات تدريبية ولقاءات مفتوحة، ما جعل الدورة السادسة مميزة رغم البداية المتعثرة.

ونضيف أن هذه التجربة كشفت عن خلل بنيوي في السياسات الفنية باسم الثقافة، إذ لا يمكن أن تختزل الفن في الموسيقى وحدها بينما تهمّش السينما، خصوصًا أن مهرجان “سيني بلاج” يحمل هوية فريدة من خلال شعاره السينما والبحر، كونه يربط الفن السابع بالفضاء الطبيعي الساحلي ويمنحه بعدًا سياحيًا وفنيا في آن واحد.

إشراك الرعاة والمستشهرين ورجال الأعمال مع المؤسسات المنتخبة يبقى السبيل الوحيد لضمان استمرارية المهرجان وتحويله إلى محطة دولية دائمة

ونذكر أن الضيوف الذين كانوا على وشك الاعتذار بعد خبر الإلغاء، وأعضاء لجنة التحكيم والمكرمين، فوجئوا بعودة المهرجان إلى الواجهة، وكانت مشاركة بعضهم بارزة في نجاح الدورة، إذ استعادوا ثقتهم بالمهرجان ورأوا فيه نموذجًا للقدرة على تجاوز الأزمات بالإصرار والإبداع.

ونشير إلى أن نجاح الدورة تجسد في حضور جماهيري معقول أعاد الحياة إلى الهرهورة، إذ ساهم المهرجان في تنشيط المنطقة فنيا. ونؤكد أن هذه التجربة أبرزت الحاجة إلى مراجعة طرق تمويل المهرجانات السينمائية في المغرب، فليس مقبولًا أن يبقى مصير مهرجان بحجم “سيني بلاج” مرهونًا بمزاج لجان أو قرارات آنية.

 إن إشراك الرعاة والمستشهرين ورجال الأعمال مع المؤسسات المنتخبة يبقى السبيل الوحيد لضمان استمرارية المهرجان وتحويله إلى محطة دولية دائمة.

ونخلص إلى أن الدورة السادسة، رغم بدايتها المأزومة، تحولت إلى دورة استثنائية أعادت الاعتبار للسينما كفن جامع، وأثبتت أن الهوية الوطنية لا تنمو إلا من خلال الفنون التي تقرّبها من الناس، بينما كانت هذه الدورة إعلانًا عمليًا بأن المهرجانات السينمائية هي استثمار فني وهذا وحده يفوق بروتوكول الثقافة في السياحة لأن الفن السابع شهرته أوسع.

ونستحضر ونحن نوسع القراءة أن مدير المهرجان عبدالواحد مجاهد نفسه قدّم نموذجًا حيًا على قوة الإرادة السينمائية من خلال فيلمه “ضاضوس”، الذي تصدّر شباك التذاكر المغربي سنة 2023 بإيرادات بلغت 8.7 مليون درهم، متفوقًا على أفلام أميركية كبرى مثل “باربي”. ويبرز هذا النجاح الشعبي ثقة الجمهور بالإنتاجات الوطنية وقدرتها على المنافسة عالميًا، كما أن جرأة الفيلم في تقديم عصابة نسائية في قالب كوميدي جديد أضفت على المشهد السينمائي المغربي نفَسًا مختلفًا يواكب تحولات المجتمع.

وندعو ونحن نغلق هذا النص النقدي إلى أن تُستثمر دروس الدورة السادسة من مهرجان “سيني بلاج” لبناء سياسات سينمائية جديدة، تجعل من السينما رافعة للهوية المغربية وفضاءً للتجديد والإبداع، وتضمن أن تبقى أصوات السينمائيين المغاربة مسموعة على المستويين المحلي والدولي.

13