"الوصايا".. فيلم توعوي أقرب إلى روبورتاج تلفزيوني

الفيلم يسعى للترويج لمواقف سياسية محددة، مثل قضايا مقاومة تزويج القاصرات والدفاع عن حقوق المرأة، بطريقة تحاكي خطابا رسميا.
الثلاثاء 2025/10/21
فيلم يسقط في فخ التوعية والتوجيه

تدور أحداث فيلم “وصايا”  للمخرجة سناء عكرود حول قصة “الضاوية”، وهي امرأة تواجه معارك قانونية في المحاكم ضد طليقها من أجل الحفاظ على حضانة ابنتها، وفي الوقت نفسه تخوض صراعا لحماية أحلام النساء اللواتي يتعاونّ معها من قوانين ظالمة تمارس الوصاية عليهن. وتوثق الحكاية من خلال تسع وصايا موجهة لكل الحاضنات.

الفيلم من سيناريو سناء عكرود، وبطولة سناء عكرود، ويوسف عربي، وخديجة عدلي، وناصر أقباب، وعبدالرحيم التميمي، ويونس شقور. ويشارك في المسابقة الرسمية  للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة في دورته الـ25.

رسالة توعوية

الفيلم يفتقر في تكوين اللقطات إلى البُعد البصري واللغة السينمائية التي تُحوّل القصة إلى تجربة حقيقية للمشاهد
الفيلم يفتقر في تكوين اللقطات إلى البُعد البصري واللغة السينمائية التي تُحوّل القصة إلى تجربة حقيقية للمشاهد

توثق فكرة فيلم “الوصايا” قصة “الضاوية”، سيدة تكافح للاحتفاظ بحضانة ابنتها بعد انفصالها عن زوجها، ويكشف نظاما قانونيا صارما وأعرافا اجتماعية تحد من حقوق المرأة وحق الطفل، ويعرض الصعوبات اليومية التي تواجهها الحاضنات في محاكم المغرب.

وتفتقد مشاهد فيلم “وصايا” إلى الحوارات المتشعبة أو الرمزية التي تجعل المشاهد يكتشف المعاني تدريجيا، إذ يعتمد في مجمله على حوارات مباشرة وواضحة تصل إلى مستوى الخطاب التوعوي، أكثر من كونها أدوات سردية أو درامية، فكل شخصية نشاهدها وكأنها تمثل صوتا رسميا أو رسالة محددة، عوض أن تنبثق من التجربة الإنسانية أو صراع يشحن الأحداث بالصورة قبل الخطاب.

النتيجة أن المشاهد يواجه نصا تعليميا يُلقى عليه، وهذا يقلل من الإيقاع الدرامي ويجعل السيناريو أشبه بنص لتلفزيون تعليمي أو حلقة توعية، لا نصا سينمائيا متكاملا يعتمد على الصورة كسلطة رمزية طاغية على الشاشة الكبرى.

تلقى فيلم “الوصايا” دعما مباشرا من وزارة العدل المغربية، وهذا ما يمنحه بعدا سياسيا. فحتى وإن أكدت المخرجة سناء عكرود استقلاليتها الإنتاجية والفنية، فإن توظيفها لدور وزير العدل عبداللطيف وهبي والفريق القانوني المرافق له يعطي الفيلم طابعا توجيهيا، يضعه أقرب إلى بيان سياسي منه إلى تجربة سينمائية محايدة.

ويتضح أن الفيلم يسعى للترويج لمواقف سياسية محددة، مثل قضايا مقاومة تزويج القاصرات والدفاع عن حقوق المرأة، بطريقة تحاكي خطابا رسميا وتؤكد جاذبية الشخصيات السياسية وتقديرها من الجمهور، وهذا رغم أهميته فإنه يكرس البعد الدعائي على حساب العمق الفني أو الدرامي الذي كان يمكن أن يخدم هذه الأفكار بشكل أفضل.

في طريقة عرض الأحداث والحوارات، تحولت القضايا القانونية والاجتماعية إلى منصة ترويجية، وكأن الفيلم حملة توعوية تقودها رؤية مسبقة ومحددة للأحداث. وتفقد بذلك الشخصيات دراميتها، ويصبح الخطاب الفني قريبا من تقرير أو روبورتاج، مغموسا برسائل توجيهية، تحجب أيّ مساحة للتأمل النقدي أو التفاعل الفني الحر، ويُفقد الفيلم الكثير من مصداقيته السينمائية ويصبح كعمل تلفزيوني مقبول لكنه مرفوض سينمائيا.

يفتقر تكوين اللقطات إلى البُعد البصري واللغة السينمائية التي تُحوّل القصة إلى تجربة حقيقية للمشاهد، كالتصوير الرمزي والحركة  ذات الفضاء الزمكاني الشاسع، والإضاءة، وزوايا الكاميرا التي لم تُستثمر لتعميق الدراما أو لتعكس الحالة النفسية للشخصيات، وإنما اكتفى العمل بطرح المشهد بشكل مباشر وواضح، وكأن الرسالة أهم من الفن نفسه، وغياب اللغة السينمائية يجعل تكوين الصورة شحيحا في التأثير البصري، وأيّ مشهد درامي جامدا، دون أن يترك للمشاهد مجالا للشعور أو التفسير، وكأنه تقرير أو شريط وثائقي بعيد عن كونه عملا فنيا يضعنا داخل العالم الذي يصوره.

السينما والتلفزيون

مشاهد الفيلم تفتقد إلى الحوارات المتشعبة أو الرمزية التي تجعل المشاهد يكتشف المعاني تدريجيا، إذ يعتمد في مجمله على حوارات مباشرة تصل إلى مستوى الخطاب التوعوي

يمكن تصنيف “الوصايا” على أنه عمل يقع بين الشريط التلفزيوني والروبرتاج وبرنامج المداولة الحقوقية؛ وهو ما يوضح موقعه الفعلي بعيدا عن السينما المتكاملة، والمسافة بين التوثيق الفني والإيصال التوعوي واضحة، خاصة عندما يختلط على المشاهد في بعض الأحيان ما إذا كان يشاهد فيلما روائيا أم تقريرا اجتماعيا.

هذا المزج يجعل العمل أقرب إلى البث التلفزيوني التعليمي، إذ تُعرض المشكلات ويُقدم تحليل مباشر لها، عوض أن تتحول إلى تجربة سينمائية مليئة بالرموز، وإلى صراعات مضمرة خلف صورة متحركة معبرة، وبناء الإيقاع الملغوم الذي يميز السينما عن التلفزيون، وهنا أضحى العمل تلفزيونيا بطبيعته، حتى مع وجود طموح سينمائي، يظل محتواه مؤسساتيا وبعيدا عن جماليات الفن السابع وخصائصه.

تبرز متتاليات المشاهد الأحداث بشكل مباشر ومكثف، ويتحول كل مشهد إلى تصريح صريح، عوض أن يكون لحظة درامية تتسم بجمالية التعبير الصوري، خاصة في المشاهد التي تقدّم المساعد الاجتماعي بصفته شخصية إجرائية مكان أن يكون عنصرا دراميا، ويبين الزواج القسري والتهديدات الاجتماعية بطريقة تبسّط الأحداث إلى درجة الانكشاف.

لم يوفق فيلم “الوصايا” في تحويل الواقع الاجتماعي إلى تجربة سينمائية حقيقية، ويظهر ذلك في غياب أيّ بناء بصري متماسك أو لغة سينمائية تدفع المشاهد إلى التفكير في الصورة قبل الخطاب، إذ تعتمد السينما على الإمكانيات البصرية والفضاء المفتوح واللقطات الطويلة وإيقاع يحترم البناء السردي للصورة المتحركة، ليمنح كل لحظة درامية ثقلها النفسي والفني، بينما في جل المشاهد  لـ”الوصايا”، تُستبدل هذه الأدوات بالتفسير المباشر والحوار المكثف، فيصبح كل مشهد مجرد ناقل لمعلومة، لا مكان فيه للرمزية أو للإيحاء، ولا فرصة لتأويل المشاهد أو فهم طبقات الشخصيات المعقدة ولو ضمنيا.

الفيلم يسعى للترويج لمواقف سياسية محددة، مثل قضايا مقاومة تزويج القاصرات والدفاع عن حقوق المرأة، بطريقة تحاكي خطابا رسميا

ويتضح الفرق بين العمل السينمائي والعمل التلفزيوني، إذ يميل التلفزيون إلى الوضوح المباشر والإيصال الفوري للرسائل، متجاوزا أيّ تعقيد بصري أو نفسي، بينما السينما تمنح الأحداث مساحة للتطور والتداخل الرمزي، وتبني الأجواء عبر الصورة والرسالة، بينما في فيلم “الوصايا” كل مشهد يقرأ نفسه بنفسه، وكأن المخرج يصرّ على توجيه المشاهد بدقة، عوض أن يترك له مجالا للاكتشاف والتأمل، وهذا يخلق شعورا بالجمود والروتينية، ويبعد الفيلم عن أيّ تجربة فنية حقيقية.

يهمل الفيلم استخدام الإيقاع السينمائي في تكوين المشهد، فتختفي لحظات الصمت التي تحمل دلالات نفسية، ويُستبدل السرد البصري بالخطاب المباشر، بينما السينما الفعلية تعتمد على الفجوات الدلالية واللعب بالفضاء الزمني والمكاني لتفعيل خيال المشاهد، والحقيقة أن فيلم “الوصايا” يلتزم بسرد خطي واضح يقتصر على تقديم الحدث والخطاب الاجتماعي والحقوقي، وهنا يحرم المشاهد من الاندماج في التجربة، ويضعه في موقع المتلقي السلبي.

تحرم متتاليات المشاهد البنية الدرامية من أدواتها الأساسية: الصراع، التوتر، الذروة والانحدار، وتستبدلها بالوعي الاجتماعي المباشر، في حين أن السينما الجيدة تحوّل الصراعات الفردية والاجتماعية إلى تجربة فنية متكاملة، خاصة عندما تتقاطع الرؤية البصرية مع الإيقاع السردي للأحداث. هنا تصبح القضايا مجرد محتوى معلوماتي، والوقت السينمائي مُستهلك في إيصال الرسائل بدقة أكثر من خلق إحساس بالرحلة الدرامية أو التغير النفسي للشخصيات عبر محطاتها الزمكانية.

يظهر فيلم “الوصايا” كعمل توعوي قيم في المعالجة الحقوقية والاجتماعية، لكنه يظل مشروطا بالبعد الإعلامي أكثر من الفني. ويضع هذا التوجه الفيلم ضمن خانة التعليم والإعلام، ويؤكد محدودية الأعمال التي تتوقف عند التوعية دون استثمار إمكانات السينما في نقل الواقع النفسي والاجتماعي للإنسان بطريقة فنية غنية، قادرة على ترك أثر طويل الأمد في الوعي الفني والجمالي للمشاهد.

8