"حب في الداخلة".. الصحراء بطل رحلة وجودية نفسية
لا يقدم فيلم "حب في الداخلة" مجرد قصة رومانسية تدور أحداثها في الصحراء المغربية، بل يتجاوز ذلك ليجعل من المكان بطلًا حقيقيًا في الحكاية، يؤثر في مجريات القصة، ويعيد تشكيل مشاعر الشخصيات واختياراتها. وتصبح الداخلة أكثر من مجرد موقع تصوير، بل فضاء يحمل دلالات روحية وثقافية، يختبر فيه الأبطال ذواتهم ويعيدون اكتشاف الحياة والحب.
يشارك فيلم “حب في الداخلة” في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة في دورته الخامسة والعشرين، ويقدم سيناريو فيلم “حب في الداخلة” للمخرج خالد الإبراهيمي تجربة سينمائية تعتمد على المكان كأحد أبطال الحكاية الأساسية، حينما تدور الأحداث في مدينة الداخلة في أقصى جنوب المغرب، عندما تسافر شابتان في رحلة بحث عن التوازن النفسي والروحي.
الأولى، ماجدة، تخوض مرحلة التعافي من مرض السرطان، وتلجأ إلى المزارات الصوفية وزوايا الصحراء لتستعيد إحساسها بالحياة. والثانية، حسناء، تحاول الخروج من تجربة اجتماعية مريرة بعد تعرضها للاحتيال من زوجها، فتجد في رياضة ركوب الأمواج ملاذاً يعيد إليها روحها.
العمل من سيناريو عبدالإله الحمدوشي، وبطولة كل من فاطمة الزهراء بلدي وغيثة برادة ويوسف بنحيون وطه بنعيم ويوسف بلدي ومحمد بوشايت والحبيب لوديكي وغالي كريميش.
ذاكرة وجودية
يبني المخرج خالد الإبراهيمي فضاءه السردي انطلاقا من المكان، إذ تتحول الصحراء من خلفية صامتة إلى عنصر درامي نشط. يرسم عبر إيقاع بصري يحتوي شغف العيش وبساطة الحياة فضاءً حميميا للشخصيات، يتيح لها التحرر من أزماتها الوجودية؛ كونه يقدم الصحراء كمنظر طبيعي من جهة وككائن له ذاكرة خاصة، يتكلم بلغة العيش بين معنى الوجود في مكان ما.
ويلعب مدير التصوير دوراً محورياً في بناء هذا العالم البصري. فالعدسة تعيد تشكيل مدينة الداخلة جمالياً لتتحول إلى فضاء سينمائي يأسر العين ويثير الدهشة، خاصة عندما تنفتح الكاميرا على البحر والميناء والكثبان الرملية والشوارع الهادئة بطريقة تجعل المشاهد يعيش المكان كما لو كان يراه لأول مرة.
وتبلغ قوة الصورة حدّ أنك، في لحظات عديدة، تشعر وكأنك لست في المغرب، وإنما في مكان سياحي عالمي يفيض بالجمال، وهذا الاشتغال البصري الذكي يعيد تعريفه ويمنحه هوية جديدة، فيجعل من الداخلة بطلاً صامتاً يفرض حضوره بقوة.
ويبرز تكوين اللقطات ثنائية الألم والانفتاح، حينما تتقاطع المعاناة الداخلية للشخصيتين مع الامتداد الشاسع للصحراء. فيختار المخرج الصمت والإيقاع المتوسط ليمنح الجمهور مساحة للتأمل في علاقة الإنسان بالفضاء، في مقابل الإيقاعات البطيئة والحوارات الثقيلة الكثيرة التي تطبع الكثير من الإنتاجات المغربية. وتتحول الرحلة إلى تجربة وجودية أكثر من كونها حكاية درامية تقليدية حول قصص غرامية.
ويغامر المخرج برؤية إخراجية تساير التيار السينمائي التجاري من جهة وتراهن على الإحساس بالفضاء من جهة أخرى، إذ يعتمد هذا النوع من السينما على المكان كركيزة أساسية في السرد، وهي مقاربة جمالية تضيف بعداً بصرياً وشعورياً قوياً، إذ تمنح المشاهد فرصة نادرة للتأمل والعيش داخل الفضاء الجغرافي نفسه، لا مجرد متابعته من الخارج، فتفتح هذه التجربة أفقاً جديداً أمام السينما المغربية، لأنها تركز على الصورة وعلى جمالية الطبيعة بدل الارتهان بالحوار المباشر أو الدراما الثقيلة، كما تُسهم في الترويج الثقافي والسياحي للمكان من خلال لغة بصرية راقية.
خالد الإبراهيمي يبني فضاءه السردي انطلاقا من المكان، إذ تتحول الصحراء من خلفية صامتة إلى عنصر درامي نشط
وتتحول الصورة إلى غاية في ذاتها، فتفقد الحكاية قوتها الدرامية ويتراجع التوتر السردي لصالح الإيقاع البطيء واللقطات الطويلة التي قد تُربك المتلقي غير المعتاد على هذا النمط. وبهذا المعنى، تبقى هذه السينما بين رهان جمالي جريء ومخاطرة بفقدان التواصل مع جمهور واسع يبحث عن قصة واضحة وشخصيات مشحونة بالحركة والانفعال.
ويستغل المخرج اللقطات الطويلة والزوايا الواسعة، ويقلّل من الحوار المباشر لصالح لغة الصورة التي أظهرت الوجود الصحراوي، وهذه المعالجة قد تبطئ الإيقاع في أعين بعض المشاهدين، لكنها تُكسب الفيلم عمقاً بصرياً يجعل المشهد المغربي أقرب إلى سينما التأمل والسفر الداخلي.
ويمنح المكان طاقة سردية خاصة، إذ لا يُستخدم كديكور جامد، بل كمحرّك للحكاية. فالبحر والرمل والسماء تشكل ثلاثية بصرية تشارك في بناء المسار النفسي للشخصيات التي تعاني من اضطرابات نفسية بين التوتر والانكسار والخوف والانعتاق، كلها مشاعر تعكسها تضاريس الداخلة كما لو كانت مرآة صافية، إذ يندمج الجسد في الطبيعة وتذوب الحكاية في رمال الصحراء ومياهها.
حب المكان
تعتبر فكرة السيناريو في “حب في الداخلة” ذكية من حيث اللعب الواعي على العنوان، إذ يوهم المتلقي منذ البداية بأنه سيشاهد قصة غرامية تقليدية، قبل أن يفاجئه بحب من نوع آخر: حب المكان. هذا التحول في محور التلقي يمنح العمل بعداً تأويلياً آخر ويجعله ينتمي إلى نمط سينما المكان أو سينما المدينة التي راهنت عليها أعمال عالمية كثيرة، فالمكان مركز الأحداث الحقيقي. والأهم أن هذه المقاربة هي ما تحتاجه السينما المغربية التي ما زالت تركز على الحكايات الشخصية أكثر من الفضاءات الجغرافية.
إن بناء قصص داخل كل مدينة مغربية، خصوصا الصحراء، يفتح المجال أمام سرديات جديدة تعيد تشكيل الخيال السينمائي الوطني، وتربط الجمهور بجغرافيا بلده بطريقة شاعرية وبصرية خلاقة.
ويتجنّب العمل الميلودراما السطحية الفجة، ويعتمد عوضا عن ذلك على حسّ جمالي متصاعد، يترك التجربة الإنسانية تتشكل بهدوء. وهذا الهدوء يعكس قدرة المخرج ومدير التصوير على بناء المعنى عبر الإيحاء الزمكاني.
ويتجلّى جمال الفيلم أيضا في إحساسه بالمكان كفضاء مفتوح للتأويل بين الرواية الغرامية وبين طغيان المشاهد السياحية، يمنح المشاهد حرية بناء تجربته الخاصة في التلقي، فكل لقطة من البحر أو الكثبان الرملية تحمل أكثر من قراءة، هي ربما ملاذ، عزلة، أفق، خلاص، أو هروب، وهذا ما يمنح العمل بعداً شعرياً لأن الكل يركز في عنوان الفيلم لكن ما عشناه هو غرام بالمكان.
ويؤسس “حب في الداخلة” لمقاربة جديدة في السينما المغربية، تضع الفضاء الجغرافي في قلب الدراما، لا في هامشها. ويثبت مدير التصوير، من خلال اشتغاله البصري المتقن، أن الداخلة فضاء عالمي مفتوح على الخيال والسفر البصري، وينجح في أن يجعل من الجمال أداة للبوح، ومن الصحراء فضاءً للشفاء، ومن السينما وسيلة للتأمل. وهذه الجرأة الجمالية تجعل العمل مميزاً، حتى وإن ابتعد عن إرضاء الجمهور الباحث عن قصة حب في الداخلة.