محمد حرب: إذا كان للدمار أثر يُرى فإن للفن أثرا لا يُنسى
الفن في قلب حرب الإبادة، ربما لا يبدو له أثر حينيّ، ربما لن ينقذ طفلا من شظية أو عائلة من القصف أو مكانا من التحول إلى رماد بأيدي الهمجية، ولكنه حتما سيبعث بأثره أبعد من اللحظة وتأثيره أبعد من المكان ومشاهده أبعد في كل روح إنسانية. وهكذا كان خيار الفنان الفلسطيني محمد حرب من داخل غزة.
الهذيان في جحيم الاكتمال هو الزمن الكئيب والمضطرب كما عبّر عنه حيدر حيدر في روايته “الزمن الموحش”، هو ما يثبت نقصنا عند عدمية التفاصيل، وما يحدث في غزة حمل كل هذا وربما أكثر، هي صورة من صور التماهي مع شاشة تسخر من عجزنا في صمت يطغى بوحشة لا تتلاشى إلا لتُكمل هشاشة ما نحن فيه، أمام ظهور أهل غزة في تكاثف وجع ومأساة.
مأساة أهل غزة قد يراها البعض بطولية، ولكنها تتجاوز البطولة برغبة في الحياة، في النجاة، في الخلاص، في الحق، بين سلسلات من الآلام والإبادة حرقا حصارا وتجويعا، مقابل الصمت، صمت الإنسانية، مصدومين نقف أمام عجزنا، ندرك مرارتنا أو واقعا مريرا يتكرر بتفاصيل جديدة بسيناريو أكثر بشاعة.
رمزية كيس الطحين
هي غزة التي ابتلعت أوجاع العالم في جحيم بائس من وحدة، بين قتل وتدمير وبين إبادة وتجويع، غزة التي يحاصر فيها البسيط والعاجز والطفل والكاتب والفنان، هذا الإنسان الذي يعبّر كيفما استطاع ليكون، ليبقى ليعبر مع الآخرين إلى ضفاف الحياة المستحقّة، وهذا المنفذ الذي اختاره محمد حرب، الفنان التشكيلي والبصري من غزة، من جحيم الفقد الذي لم ينته في عائلته.
استطاع حرب بفنه أن يخلق منافذ ليعبر وليعبّر، فنان أضافت له الحرب سنوات من عمره ولكنها لم تفقده الفنان الذي في داخله، هي حالة التواصل والتعايش مع واقع غزة التي اعتبر أنها لا تحتاج إلى لغة حالمة من تفاصيل ثورية ولكن تحتاج إلى كلمات من انعكاس حر لإنسان يريد أن يظل على قيد الحياة.
المبتكر الباحث عن ذاته في فنه محمد حرب يحاول النجاة من دواخله المسكونة بالهموم والقلق بالتفاصيل التي تفتح جروحا من جحيم حرب حتى لا يضيع في بؤس المرارة والفقد والنزوح والموت، الذي نجا منه مرات وراوغه وانعكس معه وتصارع وفي كل مرة يصرّ على النجاة بالفن والتواصل به والتوصّل إليه وهو يجتمع في كل حواسه على مشاريع تعكس وضعه وغزة، فيعكسها وينعكس معها.
فبعد فكرة ومقترح “لوحة لكل صاروخ” يقدّم اليوم فكرة “لوحة مقابل كيس طحين”، قد يبدو كل هذا تحديا ولكنه موجع إذا ما وقع فهمه بمنطلقه العكسي، وانعكاسه على حالة عامة وصور تتلاشى وتضمحل.
كيف يصبح الفن رؤية لاستجداء النجاة والخلاص من وقع الفلسفات الجمالية التي انكبّ عليها تاريخ الفنون إلى وقع البشاعة الملقاة على صور الجياع المنتظرين لمساعدات جوية يتجمعون حولها يركضون ويقعون بين البقاء وبؤسه. “كيس طحين” كم أصبحت هذه المفردات رمزا في تداخلات تصف ذل المرحلة وتشعباتها، لتصبح حفنة الدقيق ملاذ الحياة في غزة، سريالية هي أو واقعية مفرطة بسحرية، مقرفة السرد موجعة تبقى حلّا لوضع لا تستطيع كلمة البؤس أن تمرّ من خلاله دون أن تتلاشى لتطرح أسئلتها من يتحمّل مسؤوليته أمام بشاعة الواقع؟ أسئلة تتسرّب وهي تخدش المستحيل بأظافر مقلّمة ويدين مقيّدتين.
محمد حرب الذي جمعتني به رحلة الفيديو آرت كان فنانا طموح الفكرة عبقري التجسيد، حمل اسمه منذ أول مشاركاته ولمع برؤاه وتصورات الضوء والحركة واقتناص اللقطة في زمنية الفيديو أو في فراغ اللوحة، كان شغوفا بكل ما قدّم في ملتقى الفيديو آرت الدولي بالدمام منذ أوّل دورة حتى آخر دوراتها، مشاركات لم يهدأ أبدا فيها عن التعبير عن غزة بين النور والظلام والحياة والموت والألم والأمل، ولكن الجراح هذه المرة باتت خدوشا تأكل لحم المجروحين والشهداء والقتلى تحت أكياس الطحين، ليختلط الرغيف بالبؤس وبالخلاص لضمان بعض من لحم بقائه في ثبات التراب ربما ضُرب ببعضها وأُعيدت له الحياة ليخبر السماء عن قاتليه.
نقتفي أثر الحياة
“لوحة مقابل كيس طحين دعوة لاقتناء لوحة، بثمن من الحياة في زمن أصبحت فيه الكرامة تُكالُ بكيس طحين،” بهذه الكلمات يعبّر حرب عن مشروعه، أسلوب حمل جديّة لها أكثر من معنى، “نمنحكم فرصة لاقتناء عمل فني لا يُقدّر بثمن، إلا بثمنه الحقيقي ‘كيس طحين‘ يصل إلى قلبٍ جائع في غزة. هذه ليست صفقة، بل فعل إيمان، بالفن كملاذ، وبالخبز كحقّ، وبالإنسان كقيمة لا تُساوَم، شاركْ في هذا العطاء، واقتنِ لوحةً مرسومة بالضوء والألم، موقّعة باسم الحياة.”
بهذا وقّع حرب مبادرته واقتفى بنفسه تفاصيله التي حاول من خلالها رصد الأمل ولو بمنفذ نور باق وحقيقي، كيف يمكن العبور في ظل أجواء مشحونة بالظلام والوجع والنحيب والدخان، يقول “هي ليست لوحات فحسب، بل شهادات حيّة، صرخات صامتة مرسومة باللون، تنبض بالوجع، وتحمل في تفاصيلها رماد القصف وأمل الحياة.”
منذ بدايات العدوان على غزة لم يهدأ محمد حرب كان الفن مكانه الآمن في صخب غزة وكانت روحه تنبض بالصراخ للعالم ويصف البشاعة بلغة الفن “كل عمل أنجز تحت مبادرة ‘لوحة مقابل كل صاروخ‘ لم يكن مجرد فن، بل ردّ حضاريّ على الهمجية، ونهوض من صدمة الخراب التي اجتاحت غزة كل غزة وهي تجهزنا في موكب جنائزي يراه العالم الخارجي بطولات صامدة ونراه صدمة ليست بعابرة، تكاثفات تمضي بنا على خيط رفيع بين العقل والجنون ولكن للفن رؤاه ورأيه.”
ويضيف “بالفن نحاول أن يكون لدينا أيضا موقف إنسانيّ يرسم بالصمت ما عجزت عنه ضوضاء العالم، إنها مقاومة من نوع آخر، نحن لا نرفع السلاح، بل نرفع الفرشاة لنلعق جراح غزة الغائرة في لحم صورها ومشاهدها ومشاهداتها، حيث تحوّل الهواء إلى رماد، والأحلام إلى ركام، نرسم.”
“نحن نتاج هذا الواقع وهذا الزمن الذي تختلط فيه الانهيارات الواضحة بالولادات الغامضة، ولا نتوب عن أحلامنا مهما تكرّر انكسارها.” يقول محمود درويش.
هذه التجربة أو هذا الفعل الفني الإنساني ورغبة البقاء في ظل سواد المرحلة الدامية يأتي ضمن المنح الطارئة التي يُنفذها متحف السحاب مع فئة الفنون البصرية في قطاع غزة 2025، يقول حرب “أحمل الفرشاة كسلاح ناعم استطاع أن يُعبّر عن قسوة الظلم وفي تجليات القماشة كميدان للكرامة، مزجنا الألوان لا لنرسم الجمال، بل لنعيد تكوين ما تم تدميره، في كل ضربة فرشاة، نستحضر الفقد، لكننا نزرع الحياة.”
ويتابع “في كل لوحة، نواجه العنف بلغة التكوين، ونجعل من الصمت صرخة، ومن اللون ذاكرة، ومن الفضاء الأبيض مرآةً لروح لا تُقهر، ‘لوحة مقابل صاروخ‘ أو ‘لوحة مقابل كيس طحين‘، ليست مبادرات فنية فحسب، بل وقفة شخصية، وصوت يقول: إذا كان للدمار أثر يُرى، فإن للفن أثرًا لا يُنسى.”