بسمة السليمان: الريادة من فضاء الاقتناء إلى تأسيس أول متحف افتراضي للفن العربي
في زمن يشهد فيه المشهد الثقافي السعودي تحولًا جذريًا، تقف أسماء نسائية نادرة لتخطّ ملامح هذا التحوّل من قلب التجربة وعمق الرؤية. وفي مقدّمة هؤلاء، تتقدّم بسمة السليمان، سيدة الأعمال والمقتنية والراعية للفن، التي لم تكتفِ بالاقتناء، بل صنعت من شغفها بالفن مشروعًا مؤسساتيًا متكاملًا من خلال أول متحف رقمي من نوعه في المنطقة، مساهمة في إعادة تعريف العلاقة بين الفن والجمهور، ورابطة الفن السعودي بالعالم برؤية حديثة. وفي هذا الحوار، نقترب أكثر من شخصية السليمان وفكرها ومشروعها، ونغوص معها في مفاهيم الاقتناء، ودور المرأة في الفن، والمشهد التشكيلي السعودي، ورؤيتها للنقد الفني، وسعيها الحثيث لتقديم الفن العربي في صورته المعاصرة للعالم.
قليلات هن النساء اللاتي تصدّرن المشهد الفني البصري التشكيلي في المملكة العربية السعودية، بالإنجاز الفني وبالاستثمار، بالاقتناء وبرعاية الفن مع السعي الدائم لبحث منافذ الأصالة والتأصيل للمشهد الفني التشكيلي من خلال ترك بصمة وتكثيف حضور وتواصل، وقد استطعن أن يكنّ نموذجا رياديا حمل المشهد التشكيلي العربي السعودي المعاصر على محامل التجريب والابتكار وتقديمه للعالم كهوية ثابتة وحضور يواكب ويتطوّر. وبسمة السليمان واحدة من السيّدات اللاتي استطعن تأكيد ذلك بتأسيس مسار ونموذج حفرا أسماءهن في الحركة التشكيلية السعودية العربية والدولية بكل تفاصيلها وتطوّراتها وتغيّراتها وتطلّعاتها الطامحة والطموحة.
فهي الراعية للفنون والمستثمرة في عوالم الجمال ومعانيها، لم تكتف بالاقتناء بل تعهّدت بأن توجّه رؤيتها لإنشاء منصات تدعم الإبداع المحلي في السعودية وتفتح منافذ للحوار وتبادل الثقافات والتعريف بالثقافة السعودية، كان أهم إنجازاتها “المتحف الافتراضي بسمة السليمان للفن الحديث” (BASMOCA)، الأول من نوعه في المنطقة، والذي يُعدّ تجسيدًا لفكرة أن الفن ليس حكرا على المتاحف التقليدية، بل يمكنه أن يعيش في الفضاء الرقمي ويتخطى حدود الأمكنة ويصل للجميع.
ففي مشهد فني سعودي يشهد تحولًا نوعيًا غير مسبوق، برزت بسمة السليمان كأحد أبرز الأسماء التي لعبت دورًا محوريًا في دعم الفن المحلي وتعزيزه على المستويين العربي والدولي، ليس باعتبارها مقتنية أعمال فنية، بل صاحبة رؤية ثقافية استشرافية هدفت إلى إعادة تشكيل علاقة المجتمع السعودي بالفن المعاصر.
في هذا الحوار، نقترب أكثر من رؤية بسمة السليمان العميقة للفن، ونتعرّف على رحلتها مع الاقتناء، وعلى التحديات والطموحات التي تحملها في مشروعها الثقافي، ودورها الريادي في دعم الفنانين السعوديين وصناعة مشهد فني متجدد عكس الثراء والتنوع.
نناقش مع السليمان دوافعها وراء خوض تجربة الاقتناء والرعاية الفنية، ونتعرف على رؤيتها لمستقبل الفن السعودي في ظل التغيرات المتسارعة، إضافة إلى طموحاتها في توسيع مفهوم المتحف، وتعزيز حضور الفنان السعودي في المحافل العالمية، وتطوير بيئة الفنون بصفتها أداة للتنمية الثقافية والاجتماعية.
- بين الفن والفنان علاقة انتماء تبدأ من البيئة وتنعكس على المنجز الفني هذا الانتماء يخرج منه إلى العالم وتلك المنافذ تجعل المتلقي أمام ابتكارات تخترق الحواس، تسلط الضوء على منبع الإبداع، كل يفهمها حسب مدركاته. كيف استطاعت بسمة السليمان أن تحمل المدركات من نضج التلقي إلى تفاعل الفنانة مع نضج الاقتناء، ومنه إلى إنشاء أول متحف افتراضي؟
العلاقة بين الفنان والفن هي علاقة انتماء ومرآة للبيئة التي ينشأ فيها، وقد سعيتُ في تجربتي أن أترجم هذا الانتماء من خلال الاقتناء. فالمدركات البصرية ليست مجرد امتلاك لوحة أو عمل فني، بل هي حوار بين الفنان والمتلقي. من هنا جاءت فكرة “بسموكا”، كأول متحف افتراضي في العالم، ليتيح للجمهور أن يعيش لحظة التلقي بوعي ونضج، ويمنح للفنان فرصة أن يخرج عمله من بيئته إلى فضاء عالمي لا تحده الجغرافيا.
- اقتناء العمل الفني، كيف يكون بالنسبة إلى بسمة السليمان؟ وما هي الدوافع التي تحملك نحو عمل دون آخر، ونحو تجربة دون أخرى؟
الاقتناء بالنسبة إلي فعل وجداني وعقلي في آن واحد. أحيانًا أختار عملاً لأنه يلامس هويتي وذاكرتي وانتمائي، وأحيانًا أقتنيه لقوة منجزه ورؤيته المستقبلية. أرى أن التوازن بين الحسّي والعقلي هو ما يصنع هوية المقتني ويحدد أثره.
- ثنائية المرأة والفن.. الفن والمرأة، هل ترينها علاقة توصيف وتصنيف، أم مشاركة وندية وتماهي وانبعاث جدّي وجاد؟ كيف تقيّمها بسمة السليمان، وهل أثّر هذا عليها أولا كفنانة، ثم كمقتنية مهتمة وباعثة في الفنون؟ ما هي الإشكاليات التي تعرضّت لها، وما هي التحديات التي عاندتها لتحققي أهدافك؟
ثنائية المرأة والفن هي علاقة شراكة لا توصيف أو تصنيف. أنا كامرأة وجدت في الفن مساحة حرية وانطلاق، وكمقتنية سعيت أن أكون جسراً للآخرين. واجهت تحديات اجتماعية وثقافية في بداياتي، لكن الإيمان برسالتي جعلني أستمر. بالنسبة إلي، المرأة ليست على الهامش، بل في صميم إنتاج الفنون واقتنائها.
- ما تشهده السعودية من حراك ثقافي وتحولات ونشاط وملتقيات وتغيير وانفتاح بصري ثقافي على الداخل السعودي وعلى العالم، كيف تعبّرين عنه وتعبرين نحوه؟ وما هي الإضافات التي قدّمها كل هذا لتجربتك؟
الحراك الثقافي في السعودية اليوم هو غير مسبوق، وهو جزء من التحول الكبير الذي نعيشه. أعتبره فرصة ذهبية لجعل الفن السعودي جزءاً من الحوار العالمي. بالنسبة إلي شخصياً، عزز هذا الانفتاح ثقتي بأن تجربتي في “بسموكا” لم تكن مغامرة فردية، بل استشراف لمستقبل قادم.
- المرأة والاقتناء في الفن، كيف ينظر إليه؟ وهل يحمل صعوباته على مستوى المرأة المقتنية؟ ثم، التجارب النسائية الفنية، هل تعتبرينها مهمة مغرية لما يسمى سوق الفن؟
المرأة المقتنية في العالم العربي كانت ظاهرة نادرة، لكنها اليوم تزداد حضورًا. نعم، هناك صعوبات وتحديات، لكني أراها مسؤولية وفرصة في الوقت نفسه. التجارب الفنية النسائية تضيف بعداً ثرياً لسوق الفن، ولا يمكن تجاهلها في المشهد المعاصر.

- الفن المعاصر والفنون الحديثة، بينهما تفاصيل مواكبة واندماج وواقع مختلف على مستوى الأسلوب. أي الأعمال الفنية تميل إليها السليمان؟ وما هي التجارب التي تؤثر فيها تقنيا، أسلوبيا، جماليا، وإبداعيا؟
أميل إلى الفن المعاصر الذي يحمل لغة جديدة ويتقاطع مع قضايا الإنسان اليوم. التجارب التي تجمع بين التقنية والجماليات تثير اهتمامي، لأنها توسّع من حدود الفن وتفتح آفاقاً جديدة. في الوقت نفسه، أقدّر التجارب التي تحمل أصالة أسلوبية وجمالية واضحة.
- قرارات تشجيع الاقتناء في السعودية، واعتماد الاعمال السعودية كمنجزات قائمة في المؤسسات الرسمية، هل يحفّز التجريب والبحث في الحركة التشكيلية والبصرية السعودية؟ وكيف ترينه كقرار؟
القرارات السعودية باعتماد الأعمال المحلية في المؤسسات الرسمية تشجع على التجريب وتدفع الفنانين للثقة بأن منجزهم معترف به. أراها خطوة استراتيجية ستغير وجه الحركة التشكيلية السعودية.
- بين الماضي والحاضر، حسب رأيك، كيف تقيّمين التجربة التشكيلية السعودية، وبالخصوص التجربة النسائية؟
التجربة التشكيلية السعودية مرّت بمراحل نضوج، واليوم وصلت إلى العالمية. أما التجربة النسائية، فهي رائدة رغم قصر عمرها، وقدّمت أسماء لامعة أصبحت اليوم مرجعاً.
- الفن والتقنيات الحديثة، ومواكبة التجريب في عالم الأتمتة والرقمنة والذكاء الاصطناعي، كيف ترينه كمستقبل جمالي في الفنون؟ وهل ينتهي بفعله الدور الإنساني؟
الفن والتقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي تفتح أفقاً جمالياً جديداً، لكني لا أعتقد أن الدور الإنساني ينتهي. على العكس، يزداد عمقاً، لأن التقنية تحتاج الإنسان ليضخ فيها الروح والمعنى.
- بعد سنوات على تجربة المتحف الافتراضي، كيف ترينها كتجربة؟ وهل قدّمت إضافات بصرية للوعي الفني السعودي، العربي، والعالمي؟ وهل قدّمت التجارب العربية بشكل أكثر قربا؟
بعد سنوات من تأسيس المتحف الافتراضي، أرى أنه قدّم إضافة مهمة للوعي الفني. جعل الفن العربي أكثر قرباً من العالم، وفتح نافذة أمام الجمهور للتواصل مع التجارب العربية بطرق لم تكن ممكنة من قبل.
- من خلال قربك من عالم كريستيز في الفنون وتفاصيلها التدريبية التي تقع على الفنون في العالم، كيف وجدتها على المستوى الشخصي، ثم على المستوى الفني؟ وكيف ينظر لعالم الفنون العربية والتجارب فيها؟
تجربتي مع كريستيز منحتني بعداً شخصياً واحترافياً. تعلمت الكثير عن آليات السوق العالمي، وأدركت كيف ينظر الغرب للفن العربي: بإعجاب متزايد وفضول صادق، لكنه ما زال يحتاج لمزيد من الجسور لفهمه.
- حسب التجربة والتجريب لعمل المتحف، هل تعتبرين إلى حد الآن أنه استطاع أن يحقّق أهدافه؟ وإلى أي مدى وصل فيها سواء للفنانين أو للحركة الثقافية السعودية في الداخل والخارج؟
أعتقد أن المتحف الافتراضي حقق جزءاً كبيراً من أهدافه: دعم الفنانين، وتعريف الجمهور، وإبراز الهوية السعودية. لا يزال أمامه طريق، لكنه أثبت جدواه كمشروع رائد.
- ما هو تقييمك لفنون المغرب العربي؟ وهل بمجموعتك مقتنيات لفنانين من تونس، المغرب، الجزائر، ليبيا؟ وهل هناك سعي لنشاطات مشتركة وتقريب صلة البحث الفني بين التجارب الخليجية السعودية بالتحديد والمغاربية؟
الفن المغاربي غني بتجارب عميقة. لدي مقتنيات من فنانين مغاربيين، وأطمح لتكثيف هذا التلاقي. أؤمن أن الحوار بين الخليج والمغرب العربي يثري التجربة العربية ككل.
- – هل في مشروعك اعتبار للبحث والنقد والقراءة والتقييم؟ وهل تعتبرينها من أساسيات المواكبة الفعلية البناءة للحركة التشكيلية العربية؟ وما هي نقاط الضعف فيها التي تحتاج التركيز أكثر لتنتعش مجدّدا وتقوم بدورها الكامل؟ وبرأيك هل هي تغاضي الأطراف التي تنظم الأنشطة التشكيلية والملتقيات ولا تبرمج النقد الحوار طرح القضايا الفنية والبحث أو هي غلط الحركة النقدية التشكيلية العربية مؤخّرا وتراجعها عن دورها أو نقص الاهتمام بالقراءة والتواصل النقدي بين كل الأطراف والمتلقي نفسه؟
النقد والبحث أساس لأي حركة فنية ناضجة. لكن النقد العربي تراجع بسبب ضعف التواصل بين المؤسسات والنقاد والجمهور. نحتاج إلى بناء منصات حوار نقدي منتظم، بعيداً عن المجاملات، ليقوم النقد بدوره البنّاء.
- "عزنا بطبعنا"، هل يعكس ما تطمح له بسمة السليمان من خلال مسؤولياتها الثقافية في المملكة؟ وكيف تقيّمين كل جهود الحراك الثقافي فيها؟ وما هي تطلعاتها المستقبلية؟
“عزنا بطبعنا” يعكس جوهر ما أطمح إليه: أن نعتز بهويتنا، وننفتح بها على العالم. الحراك الثقافي في المملكة اليوم فخر لكل سعودي، وأنا أطمح أن أواصل من خلال “بسموكا”، ومن خلال دعمي للفن، أن أكون جزءاً من هذه النهضة، وأن أجعل الفن السعودي والعربي في مكانه الذي يستحقه عالمياً.