"ع السكت شباب".. زياد الرحباني مُخرّب جميل للموسيقى الكلاسيكية الشرقية

فنان ثائر بلا ثورة وملتزم بلا التزام تقليدي وساخر عفوي.
الأربعاء 2025/08/13
كان مثل "شريط غير حدودي" لا يعترف بالحواجز

الكتابة عن فنان وإنسان ومثقف مثل زياد الرحباني ليست بالأمر اليسير. الكثيرون كتبوا عنه وعن رحيله أواخر يوليو المنقضي، لكل منهم صورة عنه وتصور، وهو الممتد من الفن إلى السياسة إلى أعماق الوطن ودواخل الإنسان العفوية والغاضبة والبسيطة والمركبة. هي رحلات أجاد خوضها بهدوء وثورة في آن واحد.

لست ممن يجيدون الكتابة عن الراحلين في وقت رحيلهم ولا ممن يتكاثفون على سرد الذاكرة وسكبها، كسطل ماء بارد على حنين محموم من ذاكرة العبور الأول ومن تفاصيل الانتماء والتعلق حدّ الفقد، ومن يفقد مبدعا وهو يعايشه منذ تنفّس الموسيقى على وعيها العابث بحنين له صوت وترقب يحاكي الأزمنة ومراحل النضج.

فضّلت الصمت والقراءة، قراءة الناس وحكاياتهم وتفاصيلهم ومحبتهم واختلافهم وتفكيك استيعابهم، قراءة كنت قد غرقت فيها قبل سنوات عندما التقيت طلال شتوي وحرف البحث عن الناس عن حكايات المعايشين من صادفوا زمن زياد “وقديش كان في ناس.”

كان شتوي يقول: “في عرزاله البيروتي الذي اتّخذه ملاذا للكتابة والكآبة في الطابق الأخير من بناية سكنية يدلف إليه المـرء من زوارب ضيـق وسـط شـارع الحمـرا يفـضـي إلى حائط يسد الطـريق، قال لي جـوزيف حرب صيف عام 1993 زياد الرحباني يلتقي مع كل إنسان جاء إلى هـذه الأرض، ستكـون هـذه العبـارة أشبه بمفتاح قديم أجده صـدفة بعـد مضي ثلاثة وعشرين عـاما وسيقودني إلى أشخاص الكتـاب، هؤلاء لا تربطهم بزيـاد عـلاقـات على المستوى الشخصي ..مصائرهم تلاقت في أمكنة وأزمنة واحدة، تشاطروا المسرّات والخيبات والأحلام والانكسارات وحافظوا دائما على قدر من حنين وحنان يكفي لكي يجتمعوا. وزياد أكثر من عاش هنا وأكثر من مات هنا في حاضر صار فيه العيش والموت مجازين كبيرين.”

نحو سفينة جبران

رحيل ذلك المشاغب الذي اختار مسارا آخر يعبر منه بالجاز، بموسيقى العالم، بالابتكار، بالاقتباس، بالتقاط الحكايات الموقّعة، برنين موسيقيّ له لذة نصه وحكمته الساخرة من أقداره المنتسبة لبيروت للبنان، إنه زياد الرحباني كما يقول بول شاوول “غنوج الماما والبابا”، ويضيف: “يبقـى زياد حبيب الناس، واللحظة الموسيقية والمسرحية الاستثنائية والموهبة الكبيرة التي جعلته من كبار الأسماء الفنيـة التي عـرفها لبنان والعـرب. يمكن اختصار زياد بأنه ثـائر بـلا ثـورة، ومُلتزم بلا التزام تقليدي، وساخر لا يصيب مَقَاتِلَ أو جروحا عميقة، فعفويته تحميه وظرفه يمتص غضبه، وطفولته تُدغدغ نفوس كل الناس.”

زياد الرحباني الذي قال عن اختيار الجاز كمسار آخر لتنكيه الفعل الموسيقي الشرقي والرحباني بوجدان حسيّ ودغدغة ذهنية عندما سُئل ما هو الجاز أو لماذا الجاز وكيف يُعرّفه قال: “الجازوية بيعرّفو الجاز إنو تخريب للموسيقى الكلاسيكية بس متعوب عليه في جماليته الموسيقية ليثبت قيمته الفنية وكبيرة قيمته.”

زياد الرحباني حبيب الناس واللحظة الموسيقية والمسرحية الاستثنائية موهبته الكبيرة جعلته من كبار الأسماء الفنية
◙ زياد الرحباني حبيب الناس واللحظة الموسيقية والمسرحية الاستثنائية موهبته الكبيرة جعلته من كبار الأسماء الفنية

 هكذا كان مختلفا عنيدا مُعبّرا وعابرا بنا إلى بيل ويثير (Bill Withers) وجو سامبل ( Joe Sample) بكلماته “روح خبر” و”شو بخاف دق عليك وما لاقيك”، كم هي عادية هذه الكلمات وكم هي عميقة وكم تشبهنا تفاصيلها إنها تفاصيل الموسيقى الشرقية مع سيّد درويش والشيخ إمام، والموسيقى اللاتينية Luiz Bonfá لويز بونفا، جعلنا نستمع لفيروز بشكل آخر وبروح أخرى مختلفة، كان عابرا آخر نحو صفة الجاز الشرقي رغم التجريب الجازوي في تجارب الجاز العربي اختار له نكهة شرقية وشرقية من نوع ممزوج بطائفية وحروب أهلية واجتياح وانتفاضات وثورات عربية جديدة بنكهات غير متوقّعة بين التآمر والفوضى والربيع المزعوم وتفاصيل من تناقض.

 تكاد الموسيقى لا تنفصل عن كل من تأثر بها ولكن نقره على البيانو كان عنيدا، مثل “رضا” زياد لا يستمع إلا لذوقه الطامح العابر، نحو ضفة من حنين وذاكرة وتمرّد وأصوات، تجيد تكوين الأنين الواقعي على لذّة الاندفاع الحسي نحو عوالم الوجدان والخيال والواقع والموسيقى، وحدها الموسيقى كانت ملاذ الموقف عند زياد، كانت شفيع اندفاعه السليط لنقده اللاذع وتسمية من ينقدهم بأسمائهم بكل حرية واندفاع يرمي بهم بين ثنايا الطرقات السياسية التي سلكها والتي تماهى فيها وتناقض واختلف وصمت وقاوم وانحاز وتمرّد وتوقّف واختفى وظهر وعاد بشدّة بقوّة ليجمع الكل ويتفق عليه الكل في الإبداع وفي الوداع.

كان مثل “شريط غير حدودي” لا يتعترف بالحواجز وكان عابرا بين تفاصيلها، كما يقول الصحفي والفنان الفتوغرافي محمود الزيات “نجح ‘المُهرِّبون‘ في إيصال كاسيتات زياد إلى المنطقة الشرقية، لكن أساليب بيعها وانتشارها كانت عملية معقدة، تشبه عمل الخلايا السرية العاملة ‘خلف خطوط العدو‘، أما سماع القطع الموسيقية والغنائية فكانت تجري بسريّة تامة. وبصوت خافت. يعني ع السِّكْت يا شباب.”

هل انتهى الأمل

في البداية ومنذ أن التحمتُ مع لغتي لأكتب عن زياد، لم أعرف هل أكتب بعقلانية محايدة أو بذاتية الانتماء للموسيقى أو بلغتي مُجرّدة من كل شيء، إلا من عشق الفن واقتفاء أثر الجمال الذي يسرد حكايات ومعايشات وتفاعلات مبنية على ذاكرة من غبار وتراب ورصاص وحنين كانت تصلني فيه الكاسيتات، مع الحثّ على الاستماع، مختلف وشبيه، لكل شكل من أشكال الموسيقى التي عرفت، هذه اللغة القابلة للفهم والترجمة الحسية والذوقية والاستساغات اللطيفة الحسية للهجة اللبنانية العميقة والمختلفة و”مش صحيح الهوى غلاّب.”

◄ الموسيقى والكلمات والمسرحيات عند زياد هويّة ملبننة ستحكي نقدا سليط المحبة كثيف التفكيك ساخر الانسياب

في لحظة مع السؤال هل أعود إلى ذاكرة الاستماع الأول لزياد أو الاستماع المتفرّد به وحده، إلى لحظة “كيفك إنت” أو “صباح ومسا” و”مش كاين هيك تكون”، إلى مفاجآت الكلمات العادية جدا البعيدة جدا عن سفيرة النجوم، وهي تردّد “حبيت ما حبيّت ما شاورت حالي”، إلى “نزل السرور” أو إلى “بالنسبة لبكرا شو”، بنضج يختلف عن كل الحكايات، “مربى الدلال” أو “عتابا” و”سهرية” الحنين و”الرفيق صبحي الجيز”، هل أكتب بعد الحب الأول ولبنان أو الخذلان والموت، الهزائم المتناثرة وطوائف الحنين التي حملت أسلحتها وميليشياتها وانتشرت في شرايين المدن التي مررنا عبرها وعدنا غرباء.

هل أكتب اللقاء الأول وصدف الصور اللامُصورة أو ركوة القهوة وشرفة الست أم إلياس وهي تطل على زرقة بيروت بعد “هدوء نسبي” خلق عند كل لبناني ذلك الزياد الساخر في لهجة التعبير عن الأحداث التي مضت واستشراف القادم ذلك الأفق المجهول المُنذر دوما باجتياح ما، حتى بعد مرور السنوات وتحوّل الموسيقى إلى ذاكرة ومخزون وشاهد، زياد لا يحتاج ذاتية الأسلوب بقدر ما يحتاج ذاتية الإحساس، نعم لأن لكل منا زياده ولكل منا طرق وعيه واستيعابه وارتشاف الاختلاف معه حد التماهي والتقبّل والتفصيل الممل وغير مهم الاقناع أو الاقتناع.

أكتب بعقل و”العقل زينة”. أكتب الناس الذين مروا على ذاكرة الحنين وارتسموا على وجوه الكتب المقروءة وحكايات بيروت التي نسجتها غادة السمان وسرد أحاسيس مجازها محمود درويش، صور وموسيقى كانت تبشر دوما بجمال ما يحمل لبنان رغم أوجاعه في صورنا من أخيلة كتب موسومة بالإذهال لكتاب لم يمروا من لبنان دون ذاكرة “طبع في لبنان” سُجل في بيروت”، و”ع السكت شباب”، لأن الموسيقى والأغاني والاسكيتشيت والمسرحيات اختزلت ضفتين وألف تناحر وتناقضات تجتمع على المحبة وتختلف فيها.

الموسيقى والكلمات والمسرحيات عند زياد هويّة ملبننة ستحكي نقدا سليط المحبة كثيف التفكيك ساخر الانسياب، يبدأ من الأقرب وينتهي عند ذلك المجهول القادم وذلك الوطن الذي نحب، لا نودّعك زياد لأنك قريب تسكن عوالمنا.

13