ليست استعادة العراق ممكنة بالخطط الجاهزة
إذا أردت أن تعرف ما الذي يفكر فيه سياسيو الحكم الشيعة في العراق، فعليك أن تفكر في ما تريده إيران.
ما من شيء في السياسة العراقية، سواء المحلية أو الخارجية، يقع خارج القبضة الإيرانية. فتحالف الإطار التنسيقي، الذي يضم مجموعة الأحزاب والميليشيات الحاكمة في العراق، يدين بالولاء الكلي والمطلق لإيران، وزعماؤه يعتبرون أن إيران تمدّهم بالأوكسجين في غرفة إنعاش اسمها العراق.
كل المحاولات الأميركية لفك ارتباط العراق بإيران لن تجدي نفعًا، حتى لو وصلت تلك المحاولات إلى درجة خنق العراق ماليًا، وهو أمر ممكن بسبب استيلاء وزارة الخزانة الأميركية على واردات العراق من عمليات تصدير نفطه. فالمسألة تتعلق بإخراج العراق من النفق الإيراني، وهو ما لا تنفع معه الإجراءات التقليدية. العراق اليوم، كما قلت، أشبه بغرفة إنعاش، ولا يعوّل أحد على أمواله في إخراجه من تلك الحالة.
على الرغم من أن العراق لا يزال دولة هشة، ومؤسساته متهالكة، فإن التهديد الأميركي بفرض عقوبات اقتصادية لن يكون السبيل الأمثل لإعادة الأمور إلى نصابها
لقد تمكن الفاسدون من صنع ماكينة هائلة بإمكانها أن تلتهم كل ما يدخل إليها من أموال في وقت قياسي. في هذه النقطة، ينبغي عدم الاستهانة بعبقرية رجل مثل نوري المالكي، الذي كبّل العراق بقوانين تستنزف اقتصاده إلى يوم الدين، مثل رواتب الرفحاويين، والسجناء السياسيين، والشهداء، والمجاهدين، والمفصولين، والمبعدين سياسيًا، إضافة إلى رواتب مقاتلي الحشد الشعبي، الذي تجاوزت ميزانيته ثلاثة مليارات دولار، وهي في تصاعد مستمر.
ما حدث للعراق هو صناعة أميركية؛ تأخرت الولايات المتحدة في عملية إنقاذ العراق. ولكن هل هي تفكر حقًا في إنقاذ العراق، وهي المسؤولة عن خرابه؟ قبل أن تسلم الولايات المتحدة العراق إلى إيران، كان الحاكم المدني لسلطة الاحتلال الأميركي بول بريمر قد أنشأ مجلس الحكم، الذي كان تمهيدًا لقيام النظام الطائفي، وكان مصممًا لكي تتسيّده الأحزاب الشيعية الموالية لإيران.
كان المشروع يومها أميركيًا مئة في المئة. لم تجبر إيران الولايات المتحدة على أن تسلم السلطة لأتباعها. لا أعتقد أن مقاومة الاحتلال، التي اقتصرت على المناطق ذات الأغلبية السنية، كانت سببًا في الانحياز الأميركي للشيعة السياسية. ذلك تعبير مجازي قد لا يكون صحيحًا.
كانت الولايات المتحدة، بمشورة بريطانية، عازمة على إسقاط العراق في فخ طائفي لن يخرج منه إلى زمن بعيد. وقف الخيال السياسي الأميركي عند حدود تدمير العراق، ولم يفكر في أن عراقًا إيرانياً سيشكل خطرًا على إسرائيل. علينا أن نتوقع أن الدول الكبرى ترتكب أخطاء شنيعة. كان العراق الجديد خطأ أميركيًا. وحين غادرته قواتها عام 2011، فإنها اعترفت بهزيمتها لصالح هيمنة إيران عليه.
استعادة العراق أميركيًا ليست هينة. لماذا تريد الولايات المتحدة استعادة العراق، وهي التي تخلّت عنه بعد أن احتلته، وكان مصيره بيدها؟ خدع الأميركيون أنفسهم باتفاقية الإطار الإستراتيجي، التي وقّعها من الجانب العراقي نوري المالكي.
ولكن هل فكّر المالكي بالاحتيال على الأميركيين حين وقّع تلك الاتفاقية؟ إذا ما وافقنا على ذلك الاحتمال، فإننا نعطي الرجل عقلًا سياسيًا محنّكًا لا يملكه. ربما خُيّل لصنّاع القرار الأميركي، بعد أن شعروا بمأزق احتلال العراق، أن تلك الاتفاقية ستضمن لهم بقاء قواتهم في العراق.
كانت سنوات حكم أوباما الثماني هي العصر الذهبي الذي نشطت فيه إيران. واليوم، تواجه إدارة الرئيس دونالد ترامب، وضعًا شائكًا صار عليها أن تفكك عناصره من أجل أن تجعله تحت السيطرة مرة أخرى
كان الأمر كذلك، لو لم تعالج إيران المسألة بما يضمن مخططها في الهيمنة على العراق، وذلك من خلال إنشاء شبكة الميليشيات التي صارت تتسع إلى أن وصلت إلى مرحلة الحاجة إلى إنشاء مؤسسة عسكرية موازية، شبيهة بالحرس الثوري. وهنا ينبغي عدم إغفال السياسة التي اتبعتها إدارة الرئيس باراك أوباما، التي أهملت بشكل متعمد الشرق الأوسط، ومن ضمنه العراق.
كانت سنوات حكم أوباما الثماني هي العصر الذهبي الذي نشطت فيه إيران في إرساء قواعد وجودها الدائم في العراق وسوريا ولبنان واليمن. واليوم، تواجه إدارة الرئيس دونالد ترامب، وهي المهتمة بوضع المنطقة في ظل الحاجة الإسرائيلية إلى إعادة النظر في مسألة الأمن، وضعًا شائكًا صار عليها أن تفكك عناصره من أجل أن تجعله تحت السيطرة مرة أخرى.
على الرغم من أن العراق لا يزال دولة هشة، ومؤسساته متهالكة، لا تكتفي فئران الفساد بالتهام الفتات في أنفاقها، بل صارت تتحكم بكل عصب من أعصاب الدولة، فإن التهديد الأميركي بفرض عقوبات اقتصادية لن يكون السبيل الأمثل لإعادة الأمور إلى نصابها.
ليس صعبًا على زعماء مافيات الفساد، الذين هم في الوقت نفسه سادة العملية السياسية، أن يتخذوا من العقوبات وسيلة لتحشيد الرأي العام العراقي ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، باعتبارهما السبب في تردي الأوضاع المعيشية، وغياب الخدمات الأساسية، وانهيار البنية التحتية.
وتفسير ذلك على المستوى الدعائي يكمن في محاولة نزع السلطة من الأغلبية الطائفية، وإعادة البعثيين إلى الحكم. تلك حجة صار تداولها في الشارع العراقي متاحًا في مواجهة أسوأ التوقعات.
في الوقت نفسه، فإن الأحزاب الشيعية الحاكمة، وهي تستعد للبقاء في السلطة بعد الانتخابات المقبلة، وموعدها بعد شهرين، لجأت إلى توقيع اتفاقية أمنية مع إيران، ربما سمحت لها باستدعاء قوات إيرانية فيما لو تعرضت سلطتها للتهديد، كما حدث عام 2019.
لا أعتقد أن تلك المعطيات الواقعية غائبة عن العقل السياسي الأميركي، وهو يسعى إلى وضع خطة لاستعادة العراق، بدءًا من نزع سلاح الميليشيات فيه.