لماذا تفوّق زهران في نيويورك
قد لا يفوز زهران ممداني بانتخابات عمدة مدينة نيويورك المقررة في نوفمبر القادم، لكن انتصاره غير المتوقع في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في 24 يونيو الماضي شكّل لحظة تاريخية فارقة في الحياة السياسية الأميركية.
وقد تأكد رسميا فوز ممداني بعد أن أعلنت لجنة الانتخابات في المدينة الأسبوع الماضي حصوله على 56 في المئة من الأصوات.
وشكّل تفوق المترشح المسلم، البالغ من العمر 33 عاما، والمولود في أوغندا، مفاجأة للكثيرين، بعد أن فاز على حاكم نيويورك السابق أندرو كومو.
وهذا الفوز يُشير إلى تحول كبير في السياسة الأميركية وطريقة التطرق إلى قضايا الشرق الأوسط خلال الانتخابات.
◄ مواقف ممداني رغم جرأتها مبنية على اعتبارات موضوعية وليس على مجازفات غير محسوبة. وهو يبدو على دراية بالتحولات في الرأي العام الأميركي، وخاصة منذ حرب غزة
ورغم الجدل الذي أثارته مواقف ممداني تجاه الحرب في غزة والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي فإن الملف الذي ضمن مساندة الناخبين كان في الواقع البرنامج الاقتصادي ذا المنحى الاشتراكي للمترشح. تضمن هذا البرنامج دعوات إلى تجميد إيجار المساكن ومجانية النقل في الحافلات وزيادة الضرائب على الأثرياء في مدينة نيويورك التي يتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي تريليون دولار، لكن سكانها يعانون مصاعب جمة في تحمل تكاليف المعيشة.
وكانت ردود الفعل السلبية من الجمهوريين وكبار رجال الأعمال متوقعة، إذ وصفه الحزب الجمهوري بأنه “اشتراكي راديكالي معاد للسامية،” بينما بدا الكثير من رجال الأعمال المؤثرين في المدينة مذعورين من نجاحه. أما الرئيس دونالد ترامب فقد شكك في استيفاء ممداني لشروط الحصول على الجنسية الأميركية سنة 2018، وهدد بإيقافه إذا ما حاول عرقلة عمل سلطات الهجرة.
لكن ممداني لم يكن يعوّل على دعم الجمهوريين أو أصحاب رأس المال له، ولم يكن يتوقع أن الديمقراطيين الذين لهم مصلحة في استمرار الوضع الراهن سوف يساندونه.
ومن المفارقات أن اتخاذ المترشح لمواقف خارجة عن السائد والمألوف قد ساهم في توسيع قاعدته الشعبية وليس العكس. بل إن هجوم ترامب على ممداني جعل هذا الأخير يحظى بدعم حاكمة نيويورك كاثي هوشول، التي قالت مخاطبة الرئيس الأميركي “إذا هددت بمهاجمة أحد جيراننا دون وجه حق، فإنك سوف تقحم نفسك في معركة مع 20 مليونا من سكان الولاية، وأنا في طليعتهم.”
ومن العوامل التي ساعدت ممداني في حملته استجابته للدعوات إلى التغيير من داخل الحزب الديمقراطي.
وأظهر استطلاع رأي لرويترز وإبسوس أن جل الديمقراطيين يريدون بروز قيادات جديدة في الحزب وتركيزا أكبر على القضايا الاقتصادية.
ويؤيد 86 في المئة من الديمقراطيين مراجعة قانون الجباية الفيدرالي لزيادة الضرائب على الأثرياء والشركات الكبرى.
لكن الاهتمام في الولايات المتحدة والعالم تركز في الكثير من الحالات على ديانة ممداني ومواقفه من الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، خاصة أنه يريد الفوز بمنصب العمدة في مدينة معروفة بجاليتها اليهودية النافذة ودعمها الثابت لإسرائيل.
وتحولت النقاشات في نيويورك حول هذه المواضيع أحيانا إلى تشهير بزهران الذي اتهمه البعض بمعاداة السامية وعدم الاكتراث بأمن الأقلية اليهودية. لكن المترشح أنكر هذه الادعاءات، وتعهد بمكافحة جرائم الكراهية في حال فوزه. وفي الآن نفسه تمسك بمواقفه السابقة في الشرق الأوسط رغم ردود الفعل السلبية الشديدة التي لم تفاجئ أحدا.
◄ قد تُشكّل هذه المتغيرات مؤشرات على تأثيرات بصدد التشكل قد تطال مستقبلا الانتخابات الأميركية، وتؤثر في سياسات واشنطن تجاه الشرق الأوسط
ولخّص مراسل الموقع الإخباري الإسرائيلي “واي نت نيوز” مخاوف الناخبين اليهود، واصفا ممداني بأنه قد يصبح “أول عمدة مسلم للمدينة، رغم عدائه العلني للصهيونية، وتأييده المعلن لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل، وانتقاده بشكل صريح للتقليد الذي سار عليه رؤساء بلديات نيويورك بزيارة إسرائيل عند فوزهم.”
وأشار المراسل إلى أن زهران صرّح مرتين بأنه سيُلقي القبض على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بموجب مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية لو زار نيويورك وأعلن أيضا أنه يؤيد الدعوات إلى “عولمة الانتفاضة.”
ورغم مواقفه تلك حظي ممداني بدعم حوالي 20 في المئة من الناخبين اليهود في نيويورك. ويقول المحللون إن قطاعا واسعا من اليهود التقدميين أيدوا انتقاداته لإسرائيل، بينما منح آخرون الأولوية لسياساته الاقتصادية في دعمهم له.
وفي هذا الإطار، أيد عضو الكونغرس اليهودي الديمقراطي جيرولد نادلر ترشح ممداني، وكذلك فعل عدد من أعضاء الكونغرس التقدميين الآخرين. فيما هنأه العديد من المشرعين الآخرين على الانتصار الذي حققه في الانتخابات التمهيدية، لكنهم لم يُعلنوا تأييدهم له.
ويبدو أن التزام ممداني الراسخ بالدفاع عن القضية الفلسطينية أصبح جزءا لا يتجزأ من شخصيته العامة وعاملا هاما من عوامل جاذبيته السياسية. ويرى البعض أن حملته الانتخابية تستمد طاقتها من الحماسة الأيديولوجية نفسها التي أشعلت موجة الاحتجاجات التي اجتاحت الجامعات الأميركية، وأثارت حالة من الاستقطاب ومطالبات بالتجديد من شرائح مختلفة من الناخبين شملت مجموعات يهودية في الولايات المتحدة.
وتحتضن منطقة نيويورك الكبرى نحو مليون يهودي وعددا مماثلا تقريبا من المسلمين من أصل 4.6 مليون ناخب. وليس من الواضح إلى أيّ حد ستؤثر الاعتبارات الديموغرافية على الانتخابات.
ولكنه على الأرجح أن تركيبة الهوية العرقية والدينية للمدينة قد لا تكون حاسمة في الاقتراع. وتبدو المستجدات في نيويورك أكثر ارتباطا بالتحولات داخل الحزب الديمقراطي وعلى الركح السياسي الأميركي منها بالتحالفات العرقية أو الدينية.
وتميز زهران خلال حملته باستخدامه الناجع لوسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما لاقى صدى لدى الشباب الأميركيين، وخاصة جيل “زد” (الذين يبلغ سن أفراده اليوم بين 13 و28 عاما).
وتشير الاستطلاعات إلى أن أفراد هذا الجيل أكثر حساسية لقضايا العالم، وأقل ميلا للحلول العسكرية، وأكثر تعاطفا مع القضية الفلسطينية ممن هم أكبر منهم سنا.
وتقول شبكة “سي إن إن” أن ممداني يتمتع بأكثر من مليون متابع عبر تيك توك وإنستغرام وإكس وغيرها من المنصات الإلكترونية.
وقد أنتجت حملته مقاطع فيديو قصيرة مصممة خصيصا لشبكة الإنترنت، معتمدة على أساليب السخرية وإثارة العواطف للتطرق إلى قضايا حساسة مثل تردي مستوى المعيشة والفساد السياسي، للتواصل مع الناخبين الشبان.
وقال موقع أكسيوس “إن زهران ممداني، الشاب التقدمي الصاعد المنخرط في سباق رئاسة بلدية مدينة نيويورك، قد أظهر كيف يمكن للديمقراطيين الاستفادة بشكل فعال من طاقة الجيل زد ولغته ومخاوفه.”
◄ رغم الجدل الذي أثارته مواقف ممداني تجاه الحرب في غزة والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي فإن الملف الذي ضمن مساندة الناخبين كان في الواقع البرنامج الاقتصادي ذا المنحى الاشتراكي للمترشح
ولكن جاذبية ممداني تتجاوز الإستراتيجية الرقمية التي اعتمدها في تواصله مع الأجيال الصاعدة.
فمواقفه رغم جرأتها مبنية على اعتبارات موضوعية وليس على مجازفات غير محسوبة. وهو يبدو على دراية بالتحولات في الرأي العام الأميركي، وخاصة منذ حرب غزة.
وكشف استطلاع للرأي أجراه مركز “بيو” في أبريل الماضي أن 53 في المئة من الأميركيين يتبنون حاليا آراءَ “سلبية أو سلبية نوعا ما” تجاه السياسات الإسرائيلية. ومن بين الديمقراطيين، يُعرب 69 في المئة عن مثل هذه المواقف السلبية، مقارنة بـ37 في المئة من الجمهوريين، ويتبنى الديمقراطيون الشباب مواقف أكثر انتقادا لسياسات إسرائيل.
وقد تُشكّل هذه المتغيرات مؤشرات على تأثيرات بصدد التشكل قد تطال مستقبلا الانتخابات الأميركية، وتؤثر في سياسات واشنطن تجاه الشرق الأوسط.
ملاحظة ختامية: في حين أثارت التوترات المتصاعدة حول قضية الهجرة منذ فوز ترامب بالرئاسة تساؤلات حول قدرة أميركا على استيعاب المهاجرين القادمين إلى ربوعها، فإنه من اللافت أن تكون البوتقة العرقية والدينية التي استوعبت إلى حد الآن أجيالا متعاقبة من المهاجرين إلى الولايات المتحدة قادرة على أن تتسع لشخص يدعى زهران ممداني، بل وقد تتوّجه في الأشهر القليلة المقبلة رئيسا للمجلس البلدي لأبرز مدنها.
أتذكر اليوم كيف أنني رأيت اسمي، خلال سنوات إقامتي في الولايات المتحدة، يُكتب بصيغ إملائية مُختلفة تُشوهه تماما في بعض الحالات. ويبدو أن هذا الحاجز اللغوي والثقافي بدأ في التلاشي مع تطوّر المجتمع الأميركي وسيره المحتوم نحو التنوع العرقي والثقافي رغم قوى الصد الرافضة لذلك.