لماذا انفضّ التونسيون عن الأحزاب
تمرُّ الدول بامتحانات تكشف حقيقة متانة بنائها وقوة أساسها. وعلى مدى عقد ونصف، قدّمت تونس، ذلك البلد الصغير ذو الإمكانيات المحدودة، نموذجاً استثنائياً في الصمود. بينما كانت دولٌ أخرى، أكثر منها ثراءً وقوة، تتهاوى تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والاضطرابات السياسية والتهديدات الأمنية، خرجت تونس من كل عاصفة وهي أقوى، وإن كانت مجروحة. هذا الصمود لا يعزوه مراقبون لأحزابها السياسية التي تناوبت على الحكم، ولا لخطابها الأيديولوجي المتناحر، بل إلى سرٍّ أكثر عمقاً وتجذّراً: قوة دولة المؤسسات. إنها الحقيقة التي غابت عن الأحزاب التونسية بكل أطيافها، عندما انشغلت بالهم العقائدي عن هموم المواطن، فكانت النتيجة الطبيعية أن انفضَّ التونسيون عنها، مُدركين أن المؤسسات هي الضامن الحقيقي لاستمرار الحياة وديمومة الدولة، بينما كانت الأحزاب تمتهن المعارضة لمجرد المعارضة.
لا يمكن فهم صمود تونس اليوم دون العودة إلى الأسس التي بُنيت عليها. فبعد الاستقلال عن فرنسا، أدرك الزعيم الحبيب بورقيبة أن بناء دولة حديثة يتطلب خلق مؤسسات قوية تتجاوز ولاءات القبيلة والعائلة والجهة. كان المشروع البورقيبي، بغض النظر عن الجدل حول سلبياته على مستوى الحريات، مشروعاً مؤسساتياً بامتياز. قامت دولة القانون – نسبياً – وأنشئت منظومة تعليمية موحدة، وصحية شبه شاملة، وإدارة عمومية تحكم عملها أنظمة وقوانين. هذه المؤسسات هي التي تشربها المواطن التونسي فأصبحت جزءاً من “جيناته الوراثية”. لقد تحول احترام المؤسسة – المدرسة، المستشفى، القضاء، الجيش – إلى قيمة مجتمعية راسخة. هذا الإرث هو الذي حمى تونس من المصير المأساوي الذي لحق بجيرانها خلال “الربيع العربي”، حيث استمرت المؤسسات في عملها رغم الغياب شبه الكامل للسلطة التنفيذية: الكهرباء لم تنقطع، والماء جرى، والمدارس فتحت أبوابها، والمستشفيات استقبلت المرضى. لقد نجحت المؤسسات في تفويض نفسها بنفسها، وهو أعلى درجات قوة الدولة.
تونس اجتازت امتحانات عديدة منذ الاستقلال، والفضل في ذلك يعود دائماً إلى متانة مؤسساتها التي تحمي الدولة من تقلبات السياسة وهزاتها
في المقابل، جاءت الأحزاب السياسية التي انبثقت بعد 2011 حاملةً معها همّاً مختلفاً تماماً. لقد انشغلت بالمعارك الوهمية والجدل العقائدي الذي لا يطعم خبزاً. اليسار التونسي، بتياراته المتشظية، ظلَّ غارقاً في تنظيراته الماركسية والما بعد حداثية، مناقشاً قضايا بعيدة كل البعد عن هموم المواطن في الداخل التونسي الذي يعاني من البطالة وتدهور الخدمات. وفي الطرف المقابل، رفعت حركة النهضة شعار “الإسلام هو الحل” وكأنها تقدم وصفة سحرية، متناسية أن بناء الاقتصاد وإصلاح الإدارة يحتاج إلى كفاءات وبرامج عملية، وليس إلى خطاب ديني مبهم.
لقد افتقدت هذه الأحزاب إلى “البرنامج الواضح” الذي يتناول كيفية إدارة ملف التشغيل، أو معالجة الاقتصاد الموازي، أو إصلاح التعليم والصحة. تحولت السياسة إلى “صراع هويات” وليس إلى منافسة على تقديم أفضل الحلول. والأخطر من ذلك، أنها عندما وصلت إلى السلطة، لم تتعامل مع مؤسسات الدولة كإرث وطني يجب الحفاظ عليه وتطويره، بل تعاملت معها كغنيمة يجب تقاسمها وتعيين الموالين فيها، مما هدد بمحو استقلاليتها وتقويض مصداقيتها. لقد قدموا للتونسيين الأيديولوجيا بدلاً من الخبز، وحينما شحَّ الخبز، لم يجدوا حرجاً في نصحهم بأكل “البسكويت”!
الانتخابات الرئاسية 2019 وزلزال 25 يوليو 2021 كان صرخة التونسيين المدوية الأولى ضد نظام الأحزاب في 13 أكتوبر 2019، عندما منحوا البروفيسور المستقل قيس سعيد 2.7 مليون صوت، مفضلين إياه على مرشحي الأحزاب الكبرى. كانت الرسالة واضحة: “كفى خطباً، نريد رجلاً نثق في نزاهته ووطنيته”. لكن الأحزاب لم تتعظ، وظلت غارقة في صراعاتها وخلافاتها داخل البرلمان، الذي تحول إلى مسرح للعراك الكلامي والعقيم، بينما كانت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية تتفاقم.
فجاءت قرارات 25 يوليو 2021 لتكون الصفعة الثانية والأقوى. لقد فهم الرئيس سعيد رسالة الشارع واستجاب لها. بقراراته التي استند فيها إلى الفصل 80 من الدستور، لم يكن يقود “انقلاباً” بالمعنى الكلاسيكي، بل كان يضع “حصان الاقتصاد أمام عربة السياسة”. لقد أنهى لعبة “الدجاجة والبيضة” – من يحكم أولاً؟ – التي أنهكت البلاد. التفَّ التونسيون حول هذه القرارات لأنها مثلت انتصاراً لإرادتهم على إرادة النخب الحزبية المنعزلة. وكان الموقف الدال عندما حاول زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في البداية وصف الإجراءات بـ”الانقلاب”، ليجد أن ردَّ الشارع كان: “فليكن”. فما يهم المواطن هو تحقيق مطالب البوعزيزي في العيش الكريم، وليس الحفاظ على ديمقراطية شكلية تخدم النخب فقط.
على الأحزاب، إذا أرادت البقاء، أن “تعيد اختراع نفسها”. عليها أن تتحول من كيانات نخبوية ترفع شعارات أيديولوجية إلى منظمات تقدم حلولاً عملية، تستمع للشارع بدلاً من وعظه
وسرعان ما قدمت جائحة كورونا دليلاً حياً على صدقية هذه الأطروحة. بينما كانت الأحزاب منشغلة بانتقاد الحكومة أو الدفاع عنها، كانت مؤسسات الدولة – الصحة، الداخلية، الجيش – تقود المعركة الحقيقية على الأرض. تكاتفت هذه المؤسسات في عمل منسق أثبت كفاءة لافتة، مما خفف من وطأة الجائحة على البلاد. هذا التضامن المجتمعي والمؤسساتي هو ما وصفته سابقا بـ”التصرف بدافع ذاتي، وكأنما هم مبرمجون للدفاع عن الدولة ومؤسساتها”. لقد أثبتت الأزمة أن المؤسسات هي “الأولياء الصالحون” الذين يحمون تونس، وليس الخطابات الحزبية الجوفاء.
اليوم، تشهد الساحة السياسية في تونس “اختفاءً كلياً للأحزاب”، كما تذكر التقارير. من أصل ما يقارب 250 حزباً، لم يعد هناك حضور فاعل لأي منها. هذا ليس بسبب “شيطنتها” كما يدّعي البعض، بل بسبب إساءتها هي لنفسها. لقد وقعت ضحية وعودها الفضفاضة وفشلها الذريع في إدارة الشأن العام خلال “العشرية السوداء”.
المستقبل الذي يرسمه المسار الحالي يشير إلى أن تونس قد تكون سبّاقة مرة أخرى، ليس في إلغاء الرق أو الثورة الطلابية، بل في تقديم نموذج لـ”ما بعد عصر الأحزاب” التقليدية. الرئيس سعيد، بخطابه المباشر الذي يتجاوز “الأجسام الوسيطة”، يستجيب لحقيقة عصرية مفادها أن ثورة الاتصال جعلت من كل فرد “حزباً” قائماً بذاته. الأصوات الشابة لم تعد تجد نفسها في هياكل الأحزاب البالية وقياداتها المسنة.
لكن هذا لا يعني نهاية السياسة، بل نهاية شكلها التقليدي. على الأحزاب، إذا أرادت البقاء، أن “تعيد اختراع نفسها”. عليها أن تتحول من كيانات نخبوية ترفع شعارات أيديولوجية إلى منظمات تقدم حلولاً عملية، تستمع للشارع بدلاً من وعظه، وتستخدم “أقل عدد من الكلمات” وتعمل بصمت بدلاً من الضجيج الإعلامي. عليها أن تثبت أن بإمكانها أن تكون جزءاً من نسيج مؤسسات الدولة، وليس بديلاً عنها أو طارئاً عليها.
تونس اجتازت امتحانات عديدة منذ الاستقلال، والفضل في ذلك يعود دائماً إلى متانة مؤسساتها التي تحمي الدولة من تقلبات السياسة وهزاتها. لقد أدرك التونسيون أن الأيديولوجيا، بيسارها ويمينها وليبراليتها، لا تبني مستشفى ولا تخلق فرص عمل ولا تنقل الكهرباء. الذي يفعل ذلك هو المؤسسات القوية المستقلة التي تضع الوطن فوق كل اعتبار. الرئيس قيس سعيد، بتركيزه على محاربة الفساد والعمل بحزم وصمت، إنما يستند إلى هذا الإدراك الجماعي. لقد حان الوقت لكي تنتقل الأحزاب من مرحلة “ندب الديمقراطية” إلى مرحلة “منافسة المؤسسات” في خدمة الصالح العام، وإلا فإن التاريخ سيسجل أن تونس كانت البلد الذي سبق العالم في إعلان انتهاء صلاحية النموذج الحزبي التقليدي، لتبدأ صفحة جديدة يكون فيها المواطن، ومؤسسات وطنه، هما المحور والحَكَم.