كيف غطّت البراغماتية على سجل روسيا الإجرامي في سوريا
كانت السياسة، على مدار التاريخ، في ممارساتها على أيدي الحكام، خروقًا فادحة للنظريات السياسية. فهم، بذريعة الاستجابة للتحولات والمتغيرات التي تتطلبها المرحلة، يجردونها من مبادئها وأخلاقيتها. وفي كل تطور طارئ لنمط سياسي، تترسخ لا أخلاقية السياسة.
شغلت السياسة المنبثقة من الفلسفة الماركسية المفكرين السياسيين فترة تجاوزت القرن، من غير أن يكون لهذا الانشغال غير جدل منقسم بين تبرير دعائي، وتشويه مثبط. وكان هذا الجدل يوازيه جدل آخر حول الفلسفة السياسية المنبثقة عن الفلسفة البراغماتية، التي كانت أشد خرقًا لأسسها النظرية في ممارسات الساسة الذين تبنوها. البراغماتية، في أصولها الفلسفية، ترى أن “معنى الأفكار وقيمتها يكمن في نتائجها العملية وتأثيرها في التجربة الواقعية، بدلاً من الاعتماد على النظريات المجردة”.
بمعنى أدق، هي فلسفة تولي الأهمية للنفعية، وتمتلك من الضبابية ما يموّه الحقائق. ظهرت البراغماتية في الولايات المتحدة عام 1870 على يد مؤسسيها: تشارلز ساندرز بيرس، وويليام جيمس، وجون ديوي. وقد دفع هؤلاء في تنظيراتهم إلى النتائج العملية النفعية للأفكار، بتجريد مطلق من أي مبادئ أو قيم أو أخلاق تعوق تحقيق النفع. وهي، بتعبير ويليام جيمس، ليست “رصد ما هو حقيقي”، بل “خلق ما هو حقيقي وإبداعه في شكل عملي”. ويرى أن الفلسفة، بوصفها نظرية في السياسة، عملية “صراع بين شتى الأمزجة الفردية”، بدءًا بأكثرها “رهافة” وصولًا إلى الأكثر “همجية”.
الحقيقة أن الهمجية التجريبية هي المنهج الأبرز الذي تجلت فيه البراغماتية السياسية. وأصدق وصف لهذه السياسة هو “الهمجية التجريبية”، وهو مصطلح تجميلي ينضوي تحته التجرد من الأخلاق والمبادئ والقيم لتحقيق نفع ما، دون أي اعتبار للإنسانية. وقد لاقى هذا المنهج رواجًا كبيرًا عند الحكام الذين يضمرون نزعات ديكتاتورية، ولا سيما ممن أتوا الديكتاتورية من مرجعية أوليغارشية، حيث تكون السلطة محتكرة من قبل نخبة صغيرة مستبدة تربطها مصالح أو دعوات عميقة: إقطاعية، أو برجوازية، أو عسكرية، أو دينية راديكالية، أو عشائرية.
الحقيقة أن الهمجية التجريبية هي المنهج الأبرز الذي تجلت فيه البراغماتية السياسية إذ ينضوي تحتها التجرد من الأخلاق والمبادئ والقيم لتحقيق النفع دون أي اعتبار للإنسانية
بات من المألوف وصف تجاوزات الحكام لمشروعية سياستهم الوطنية بالبراغماتية. وفي أحيان كثيرة تصبح البراغماتية، وفق الميثاق الوطني لمشروعية الحاكم، ضربًا من الخيانة والغدر، والانقلاب على الأهداف والمبادئ والقيم والأخلاق التي تبناها وأقام حكمه عليها. وتكون غالبًا مناقضة للدعوى التي انطلق منها الميثاق الوطني الذي يشرّع حاكميته.
لذلك تتحول البراغماتية، بحسب نزعات الحكام، إلى سياسة “الهبوط الاضطراري بالمظلات”، لأن السياسة في تلك الحال خرق مطلق لكل مبادئها. ويتستر هذا الخرق بـ”بروباغندا” إعلامية جارفة تجمّل هذه السياسة بتوصيف “البراغماتية الضرورة”، وتبررها بصفات الذكاء والحنكة السياسية العبقرية في التغلب على الواقع ومسايرة السياسة العالمية الراهنة، بمعنى تجميلها لجعلها ممارسة سياسية مخاتلة.
وربما نجد أبرز مثال لهذه البراغماتية ـ براغماتية الهبوط الاضطراري بالمظلات ـ في إعادة نسج العلاقات بين الحكومة السورية المؤقتة وحكومة روسيا، فبين الحكومتين ما صنع الحداد، كما يقال.
فقد شنت روسيا حربًا عسكرية طاحنة على السوريين استمرت لأكثر من عقد. بدأت بالحرب السياسية والإعلامية، فأخذت مجلس الأمن رهينة لفيتوهاتها ضد الثورة السورية التي استخدمتها ثماني عشرة مرة. وحين تقهقر النظام الأسدي، ولم تجد نفعًا الفتن السياسية والإعلامية والفيتوهات، شنت روسيا، بمساعدة الميليشيات الإيرانية وحزب الله، حربًا هجومية مباشرة بسلاح الجو على السوريين. وتشير أرقام الدفاع المدني السوري، حتى 12 أيلول 2024، إلى مقتل 4073 مدنيًا وجرح 8431 آخرين جراء 5751 هجومًا شنته روسيا.
سجلت فرق الدفاع المدني السوري ما مجموعه 265 مجزرة ارتكبتها القوات الروسية منذ بدء تدخلها العسكري المباشر لصالح النظام في 30 أيلول 2015. أدت تلك المجازر إلى مقتل 2784 مدنيًا، بينهم 873 طفلًا و552 امرأة، وإصابة 3442 آخرين، بينهم 884 طفلًا و753 امرأة.
وهذا السجل ليس نهائيًا، وهو يجسد أبشع عدوان همجي على الشعب السوري. وليس تداول هذا السجل من باب نكء الجراح أو وضع العصي في عجلات السياسة، بل هو سجل حقوق وطنية وإنسانية لا يعلوها حق، ولا تسقط بحق البراغماتية السياسية.
وعلى الرغم من هذه الفظائع، تلتقي هذه الأيام الحكومتان لتعيد نسج علاقات جديدة، رافعة سجل الإجرام إلى رف البراغماتية. ويبقى محك صدق براغماتية الهبوط الاضطراري بالمظلات هو حقيقة سبب هذا الهبوط: أَيكون حاجة وطن مستعصية؟ أم استعصاءً سياسيًا تصنعه السياسة العالمية؟ أم حاجة ذاتية للحاكم؟ فكثيرًا ما يمحو الفكر السياسي الديكتاتوري الحدود بين الوطن والحاكم.